الرجل والمرأة مختلفان.. لكن ليس في الصفات التالية
إلى أي مدى يختلف الرجل والمرأة عن بعضهما بعضا؟ هناك تجارة قائمة بملايين الدولارات تحاول اللعب على هذا الوتر الحسّاس في حياتنا المعاصرة، تأمل مثلا تلك المساقات الشهيرة والتي تنتمي إلى جانب التنمية البشرية، تلك التي تبدأ من مارك غانغور، خبير العلاقات الكوميدي المعروف، وهو فقط “خبير علاقات”!، مرورا بمساقات الزواج ومتخصصي حل المشكلات الأسرية، وصولا إلى “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”، كتاب جون غراي الطبيب النفسي الأميركي الشهير، والذي لقي الكثير من النقد1 في الوسط العلمي. في الحقيقة كانت الشهرة الواسعة، وبالتالي الثروة الكبيرة، التي حققها غراي من هذا الكتاب هي أحد الدوافع الرئيسية لانتشار هذا النوع من النشاط التجاري والذي يحاول تعريف الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، وكأنك تعرّف الشيمبانزي بسلحفاة أطلسية، والعكس!!
لكن، هل يختلف كل من الرجال والنساء حتّى تلك الدرجات المفرطة التي يتحدث فيها كل من غراي وغانغور وغيرهم؟ بالطبع نعرف أن هناك اختلافات سلوكية2 وتشريحية وهرمونية بين الرجال والنساء، فالنساء يصنفن أنفسهن باستمرار في الاختبارات على أنهن أكثر تعاونا، ودفئا، وأكثر صدقا وأكثر قلقا وحساسية في مشاعرهن من الرجال، بينما يصنف الرجال أنفسهم على أنهم أكثر حزما وترحيبا بالأفكار الجديدة، كذلك فإن النتائج نفسها نحصل عليها حينما نحاول أن نتقصى رأي نساء في الرجال من حولهم أو العكس، لكن ماذا لو قررنا البحث خلف بعض وظائف العقل البشري؟
العقل كموظف مطار!
دعنا هنا نتحول قليلا إلى علم النفس الإدراكي، حيث يشير اصطلاح الوظائف التنفيذية3 (Executive functions) إلى الإدارة العقلية، أي عملية التحكم والضبط للعمليات الإدراكية الأساسية، بما في ذلك قدراتنا على التخطيط مثلا، وحل المشكلات وترتيب الأولويات، وتركيز انتباهنا على شيء بعينه أو أداء مهام متعددة، يتدخل في تلك العملية ثلاثة عناصر نشطة تتفاعل فيما بينها بشكل مستمر، الأولى هي “ضبط التثبيط”، المسؤولة عن التركيز، ضبط مشاعرنا، والتحكم في تصرفاتنا خلال المواقف القاسية. ثم “الذاكرة العاملة”، تلك التي تعالج المعلومات، ثم تصنف الذكريات كقطع، بذلك نتمكن من أداء وظائف معقدة وفهم أفكار عميقة، بمعنى آخر، فإن الذاكرة العاملة تؤثر على ذكائنا. وأما العنصر الثالث فهو “المرونة الإدراكية”، ويعني قدرتنا على التنقل بين مهام عدة، وقدرتنا -أو سرعتها- على تحويل وجهة نظر إدراكنا من منظور إلى آخر.
لفهم ذلك التعقيد النظري يمكن أن تتخيل موظّفا موجودا الآن في غرفة التحكم بالمطار، يجلس صديقنا، بتركيز شديد ليراقب الطائرات التي تتحرك في الجو، كذلك تلك التي تتأهب للإقلاع، والتي تتجهز للهبوط، مع عدد واسع من المعايير الأخرى كالارتفاع والضغط الجوي وسرعة الرياح، إلخ، ويقوم هذا الموظف بالتنسيق بين كل ذلك فينتظم كل شيء، لكنّ خطأ واحدا في هذا التنسيق بين موعد هبوط وصعود طائرتين مثلا، أو اقتراب أي منهما من الأخرى في الجو لمسافة حرجة، قد يتسبب في كارثة حتمية، إنه ما حدث حينما تسبب عدم انتباه دونالد مارجوليس، الأب الحاني، من مسلسل “بريكينغ باد”، في ارتطام طائرتين ببعضهما بعضا، بعد أن فقد تركيزه على أثر وفاة ابنته، كان الأمر معقدا حقا.
تلعب تلك الأدوات الإدراكية الثلاث نفس دور موظف المطار، وتؤثر جميعها4 في مجمل أداء الإنسان الدراسي مثلا، فأصحاب العناصر الثلاثة المتطورة جيدا يتمكنون بسهولة من التركيز في مهامهم الدراسية، ومعالجتها جيدا، في بعض الأحيان من دون الحاجة إلى الورقة والقلم، ومهما كانت هناك مؤثرات خارجية، وهم يستجيبون لتلك المؤثرات بهدوء ودرجات أقل من الانفعال، ويتمكنون كذلك من التنقل بين موادهم التي يدرسونها بسهولة وسرعة شديدتين، بينما في المقابل تجد أن هؤلاء الذين يطورون قدرات أقل لتلك العناصر الثلاثة أقل قدرة على الانتباه والتركيز، للحساب يحتاجون دائما إلى الكتابة مثلا، ويتم تشتيت انتباههم بسهولة، ينفعلون بسهولة كذلك ولا يتنقلون بسرعة من مهمة إدراكية إلى أخرى، بل إن بعضهم قد يأخذ وقتا للتنقل بين الكلام والاستماع كمهام إدراكية.
بين ترتيبك للمكتب، وضبطها لميزانية المنزل!
لهذا السبب، فإن تلك الوظائف التنفيذية -كما يبدو- تتحكم تقريبا في كل شيء مهم، وتتصور توجهات إدراكية مهمة أن الاضطراب فيها يتسبب في أمراض خطيرة كالفصام أو الاضطراب ثنائي القطب أو اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة (ADHD)، لكن المشكلة هي أننا نلاحظ أن هناك فارقا5 في النسب وتردد الإصابة وشدة الأعراض في المصابين بتلك الاضطرابات بين الرجال والنساء، فالرجال -على سبيل المثال- أكثر قابلية للإصابة بالفصام في سن أصغر، وكذلك هم أكثر إصابة بمرض اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة، أما النساء اللائي شُخّصن بالمرض نفسه وهن أطفال كانت الأعراض عندهن أكثر شدة، بينما لم تُلاحظ تلك العلاقة في الذكور، بالتالي -ومع كل تلك العلاقات الواضحة- فمن المفترض أن يدفع ذلك إلى تصور وجود فوارق بين الرجال والنساء في تلك الوظائف التنفيذية.
هنا يأتي دور دراسة جديدة، نُشرت6 فقط قبل عدة أيام، بالدورية الشهيرة “Nature”، حاول الباحثون خلالها، عبر فحص أكثر من 150 دراسة حديثة حاولت إيجاد فوارق بين الرجال والنساء في الوظائف التنفيذية للعقل البشري، استنتاج نمط واضح يشرح تلك الفروق، سواء بين الرجال والنساء من بني البشر، أو بين الذكور والإناث في حيوانات التجارب (كالفئران)، وبذلك يمكن أن نفسر أسباب تلك الفروق في الإصابة بأمراض عقلية بعينها، لكن نتائج ذلك الفحص جاءت لتضع أسبابا أخرى مختلفة.
حيث وجدت الدراسة أن هناك فوارق ضعيفة للغاية، لا يمكن الاعتماد عليها، بين الرجال والنساء في بعض المهام التنفيذية، بينما لم تجد فوارق على الإطلاق في بعضها الآخر، أما في حالة حيوانات التجارب فلم تظهر أي فوارق في كل المهام التنفيذية العقلية، وهنا اقترحت الدراسة أنه حتّى على الرغم من وجود بعض الفروق الفردية في الوظائف العقلية التنفيذية، فإنها لم تظهر كعلاقة واضحة، وظهر أن الكثير من الاختلافات الظاهرة في بعض التجارب تعتمد بشكل كبير على طريقة الاختبار والمعايير التي تم اختبارها، وكذلك على الإستراتيجية التي يتخذها كل من الرجل والمرأة في معالجة التحديات المعروضة أمامهم، لكن ليس في الوظائف التنفيذية نفسها.
أسباب جانبية
وجدت الدراسة6 أنه لتقييم اتخاذ القرار تركز النساء بشكل أكبر على المخاطر، بينما يركز الرجال بشكل أكبر على المكافآت، لذلك قد يظهر اختلاف بينهما في المهام الأكثر تهورا، والنادرة بطبعها، حيث تهتم المرأة بصورة أكبر -بدرجة- بأن تكون الأوضاع أكثر أمانا، لكنه لا يبرر اختلافا في الوظائف التنفيذية، أما في المهام المحسوبة نتائجها بدرجة من الدقة فإن كلًّا منهما كان ذا نتيجة واحدة في التجارب، من جهة أخرى كان الرجال أكثر اندفاعا من النساء، لكن في هذين النقطتين (اتخاذ القرار، والاندفاعية) كانت الفروق، رغم وجودها، في المجمل، طفيفة، أما في العناصر الأخرى التي تم فحصها (الذاكرة العاملة، ودرجة الانتباه) فقد كانت الفروق غير موجودة بالمرة.
وبذلك فإن استنتاج وجود اختلافات جوهرية في الوظائف التنفيذية، بناء على اختلافات المرض العقلي، بين الذكور والإناث، يبدو أنه غير صحيح. وهنا تقترح الدراسة أن تلك الوظائف التنفيذية يمكن أن تتأثر بمجموعة كاملة من الضغوط البيئية التي تحدث لنا بينما نكبر، وتضم تلك الضغوط كل شيء بداية من المشاكل التي تواجه الطفل في الرحم وحتّى إهانة من زميل في الملعب أو الفصل، ويرجح أن هذه “المسارات النمائية”، كما يسميها الباحثون، مسؤولة عن الاختلافات في تفكيرنا وإدراكنا للعالم من حولنا.
في تلك النقطة يمكن كذلك أن نشير إلى دراسة أخيرة7 نُشرت منتصف العام الماضي، بقيادة د. ستيوارت ريتشي من جامعة إدنبرة، على عيّنة -هي الأكبر إلى الآن- مكونة من 2750 امرأة و2466 رجلا بريطانيا بين أعمار من 44 – 77، خضعوا جميعهم لتصوير رنين مغناطيسي للدماغ بينما قام الباحثون بقياس حجم 68 منطقة مخّية بجانب ثخانة القشرة الدماغية، لتجد الدراسة أنه في المتوسط يتشابه كل من الرجال والنساء، لكن درجة التنوع في أحجام تلك المناطق كانت أكبر فيما بين عيّنات الرجال من عيّنات النساء، وتؤكد تلك الدراسة فكرة سابقة غاية في الأهمية، وهي أنه في حالة الرجال نرصد دائما درجة أعلى من التنوع في النتائج، سواء في القدرات الجسدية والعقلية، فمثلا يقع المتوسط لنتائج اختبارات الذكاء في الرجال والنساء في النقطة نفسها، إلا أن الرجال أكثر تمثيلا في المناطق -النادرة بطبعها- على جانبي منحنى التوزيع الطبيعي لوصف البيانات، أي تمثيل أعلى في منطقة الذكاء المطلق، والغباء المطلق أيضا!
جدل شبكات التواصل الاجتماعي
وكنّا في تقريرين سابقين8،9 قد ناقشنا، عبر مجموعة من أحدث وأشهر وأكبر التجارب، قضايا الذكاء بين الرجل والمرأة بصورة أكثر تفصيلا تشتمل معايير عدة غير ظاهرة للناظر في الوهلة الأولى، لكن ما يثير الانتباه هو -لا شك- السبب في أن نُلقي بتلك الأسئلة عن الاختلافات في القدرات الإدراكية والذكاء بين الرجل والمرأة على طاولات النقاش الثقافية، هنا يتحجج البعض بأن هذا النمط من البحث العلمي مهم لعلاج الكثير من الأمراض بينما ندخل في عصر يكون العلاج فيه مخصصا لشخص بعينه.
لكن تلك حجة يمكن أن نجدها في الأوساط الطبية والدوائية فقط، نحن هنا نسأل عن السبب في أن ينتشر الحديث عن هذه الأبحاث بين أشخاص لا علاقة لهم بها وفقط يطرحونها في نقاشات ثقافية واجتماعية. في فترة شك يمر بها العالم كله، فترة لا تنتصر فيها الحقائق بل الأكاذيب المدعمة بألعاب عاطفية، لماذا يصر البعض أن يزج بالقدرات العقلية للمرأة في نقاشات يمينية متطرفة أو دينية مؤدلجة فقط لإثبات وجهة نظر؟
في تلك النقطة دعنا نوضح أن الجدل في الوسط العلمي حول نتائج دراسات كتلك، وإن كان محسوما في قضايا الذكاء والوظائف التنفيذية، وإن كنّا نعرف بالفعل أن القول بأن تقسيم الدماغ إلى ذكر وأنثى هو إلى الآن علم زائف لا دليل عليه، لا يمكن أن ينتقل -بسهولة- ليصبح جدلا على طاولة نقاش في وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك لأن هؤلاء لا يعرفون الكثير عن مدى تعقد النتائج الإحصائية لتلك الدراسات، وهو أمر غاية في التعقيد بقدر تعقد أدوات القياس وعدم وضوح حدودها واتساع مدى المتغيرات المنضمة للمعادلات، وغالبا -في أثناء نقاشات كتلك- ما يتجاهل البعض شروطا عديدة، وتحذيرات طويلة، ومعايير جانبية كثيرة، يدرجها الباحث في أثناء عرضه.
لكن المؤسف حقا، في هذا الموضع من تاريخنا، هو أن تسود، بصورة متصاعدة، في أوج عصور العلوم والتكنولوجيا، على مستوى العالم، صورة تقول إن ابنتك الصغيرة، ذات السنوات الخمس، أقل ذكاء من زميل لها في الفصل، بينما تبذل هي جهدا دراسيا ربما أكبر منه، أو تستذكر دروسها بحماس، لكنه حماس يمكن أن ينطفئ يوما ما بسبب تلك الصورة المجتمعية المنتشرة عنها، وهي صورة لا علاقة لها بقدرات ابنتك الحقيقية أو حديث العلم عنها.
الجزيرة