الغمامة السوداء .. أخطر إفرازات لمصنع حديد بصناعات بحري
نتائج فحص معملي: ما تم من فحص يعادل 324 ضعف المسموح به
إصابات عمال بأمراض مزمنة وشكاوى من مواطنين بحي كوبر
بلاغات في نيابة حماية المستهلك والبيئة
بائعات أطعمة وشاي يشكون لطوب الأرض
تضرر منتجات مصانع مجاورة
(بشير) يعمل بأحد المصانع الشهيرة بالمنطقة الصناعية بالخرطوم بحري كان في أتم الصحة وكمال العافية لحظة استلامه الوظيفة حسبما أثبتت نتائج الفحوصات أثناء المعاينات لم يكن (بشير )- الشاب الثلاثيني- يعلم أن الأقدار ستسوقه إلى الإصابة بمرض مزمن ليس بسبب طبيعة وظيفته، ولكن للبيئة السيئة للغاية التي تحاصر مكان عمله حيث ظل يستنشق بشكل يومي – ليلاً أو نهاراً حسب دوام وردية العمل – يستنشق إفرازات ناتجة عن صهر الحديد بكل أنواعه بما فيه الحديد الخردة تصهره ماكينات مصنع مجاور يتبع لشركة شهيرة تعمل في مجال الحديد والصلب .
لم تكن حالة بشير هي الحالة الوحيدة في تلك المنطقة الموبوءة، بل حسب روايات عمال وموظفين لـ(الجريدة) فإن الإصابة بالمئات بينهم هذا غير الأضرار التي تسببها هذه الإفرازات السوداء لمنتجات غذائية لمصانع مجاورة. هذه الأبخرة التي كانت (الجريدة) شاهد عيان عليها تبدأ بدخاخين بيضاء، ثم تتدرج الإفرازات وتميل إلى الصفرة حتى تصبح سوداء داكنة السواد. ثم وحسب ما ذكر عمال فإنها تقل في النهار وتزداد بشكل كبير ومخيم بالليل وتتسبب في اختناقات يمتد أثرها حتى داخل منازل حي كوبر المجاور، ثم لا تتردد في تسلق أسوار السجن العالية وتزور المساجين.
بائعة أطعمة جوار المصنع قالت لـ(الجريدة) إن ظروفها القاسية دفعتها دفعاً إلى أن تواصل في العمل بالمنطقة، وظلت تستنشق هذه الدخاخين باستمرار، ثم إنها يضيق صدرها ليلاً كلما استلقت في سريرها لتأخذ قسطاً من الراحة بعد نهاية كل يوم عمل شاق ومرهق بيد أنها لا يغمض لها جفن لأن تأثيرات المادة السوداء تحيل بينها وبين غمض الأجفان وتزيد من أوجاعها. وتسرد (ن ،ع) بائعة الشاي حكايتها مع الدخاخين وأنها ظلت تغير من مكان عملها حسب اتجاه الرياح وتغيرات المناخ فهي تختار المكان الآمن حسب الحال لكن بعضاً من الدخاخين يتبعها حيثما حلت وتأخذ نصيبها منه، وكذلك يفعل مع زبائنها.
(آدم) يعمل بواباً في أحد المصانع وعقب سؤال (الجريدة) عن تلك الدخاخين أطلق ضحكة مجلجلة، ثم دخل في نوبة (سعال) ربما ليكشف عن حالته الصحية الراهنة يقول آدم إنها ليست مجرد دخاخين إنها سحب سوداء وبيضاء وصفراء تغطي سماوات المنطقة الصناعية كلما دارت ماكينات المصنع وبدأت عملية صهر الحديد، ثم يرسم بعصاه على الأرض كيفية بداية تصاعد الدخاخين حتى يكمل لوحة السحابة السوداء تدخل كل مصنع ومنزل وبناية لا تستثني أحداً ولا مبنى. ويضيف آدم أن المعاناة يتحملها البسطاء من أمثاله وزملائه في العمل من العمال وبائعات الأطعمة والشاي وغيرهن من النساء اللائي يعملن في المنطقة في مهن مختلفة.
لم تقف الأزمة عند حد إصابة البشر فحسب فقد كشفت جولة (الجريدة) في المنطقة عن حالة اللامبالاة حيث يقوم المصنع بتفريق مخلفات الحديد بعد انصهاره في مساحة خلف المصنع وهي مخلفات خطيرة حسبما يقول موظفون ورصدت (الجريدة) أعداداً كبيرة من الشباب يقومون بنبش تلك المخلفات دون اتباع أي إجراءات للسلامة بحثاً عن الحديد الذي عصا على الانصهار ثم بيعه خردة وتدويره من جديد والأخطر من ذلك أن بعض بائعات الأطعمة والشاي وجدن في تلك الأعداد الكبيرة من الشباب سوقاً رائجاً لبضائعهن دون أي حواجز تفصل ما بين أكوام مخلفات الحديد والرصاص الداكن السواد وبين الأطعمة المباعة، الذي لم يذكره آدم وبشير من قبله وبائعات الأطعمة والشاي وبقية العمال هي نتائج الفحص المعملي الخطيرة عن هذه الإفرازات والتي تحصلت عليها (الجريدة)، وهي نتائج توصلت إليها معامل فور وورد للخدمات البيئية والفنية التابعة للمجلس الأعلى للبيئة ولاية الخرطوم حيث كشفت نتائج الفحص عن أن كميات الرصاص المقاسة تعادل (327) ضعف تقريباً من الكمية المسموح بها وهي 50u/m3 . التقرير الصادم والصادر عن تلك المعامل ينبه إلى أن العينة المفحوصة مأخوذة من بعض الأسطح الخارجية لعبوات المنتج النهائي حيث تم التحليل بواسطة جهاز الxrf ولفت التقرير إلى أن العناصر التي ظهرت في النتيجة تمثل جزءاً من المكونات الموجودة في الغبار الذي مصدره المصنع.
بلاغات وشكاوى دونها أصحاب مصانع وشركات مجاورة المصنع سيما بعد صدور التقرير الذي حوى أرقاماً مخيفة وكشف عن أن المادة المفرزة مادة رصاص .
وحسب متابعات (الجريدة) فإن البلاغات دونت لدى نيابة حماية المستهلك والبيئة في وقت ألزمت فيه إدارة الصحة محلية بحري المصنع بعمل مدخنة ورغم تركيبها إلا أن الدخاخين ما زالت تتسرب وبكميات كبيرة إلى الخارج وتقتحم حتى مكاتب الموظفين الكبار.
الخرطوم: علي الدالي
صحيفة الجريدة