الحريق… تفاصيل أسوأ (13) ساعة في تاريخ سوق أم درمان
(صبر وجلد.. حيرة وإغماءات)، أحساسيس مُتباينة وخيبة أمل، بين تجار قضت النيران على أخضر بضائعهم ويابسها بسوق أم درمان فجر أمس، واحالتها رمادا.. أزياء متسخة ممزوجة بطين أرض السوق وسواد الحريق ومياه الدفاع المدني.
ماذا قالت المصادر؟
(ربنا يعوض) كانت أبرز جملة يتفوّه بها السابلة للتجار وهم يقفون على بقايا بضائعهم المحروقة، ويَروون الحكايات لكلِّ عابرٍ بين أزقة سوق العدة والتوابل والعطور التي تحوّلت إلى ركام محروق.
(السوداني) عايشت مع التجار لحظاتهم الحزينة وهم يفقدون متاجرهم وثرواتهم الثمينة، بضائع وأموال نقدية (كاش) تقدر بمئات المليارات، كانت في محالهم داخل خزنهم وبين أرفف متاجرهم بفعل الإجراءات الاقتصادية الأخيرة. كل هذا فقدوه في لحظات.. جميعهم راضون بالقضاء والقدر مع تفاوت درجات الصبر عند المصيبة، فسقط بعضهم بحالة إغماء استدعت الرش بالمياه.
مصادر (السوداني) كشفت عن أن شرطة النجدة (999) تلقت بلاغاً عند الساعة (2:19) صباحاً بالضبط باندلاع حريق بسوق أم درمان.
النجدة حوّلته إلى كابينة الدفاع المدني داخل غرفتها، وبدورها تعاملت معه بسرعة نظراً لأهمية الموقع (سوق أم درمان).
المصادر أكدت أن شرطة الدفاع المدني بدأت تحريك سياراتها واحدة تلو الأخرى حتى بلغت السيارات المُشارِكة (20) سيارة، منها (15) سيارة إطفاء، والبقية تناكر مياه للإمداد. القوة بشرية المُشارِكة في إطفاء حريق السوق فاقت الـ(150) ضابطاً وشرطياً، فضلاً عن القوات المُشارِكة من الوحدات الأُخرى.
مدير شرطة ولاية الخرطوم الفريق حقوقي إبراهيم، ومدير الإدارة العامة للدفاع المدني اللواء أبوبكر سيد أحمد، ومدير شرطة محلية أم درمان اللواء آدم إبراهيم، بجانب والي الخرطوم الفريق أول هاشم عثمان الحسين وقفوا على الحادث بشكل لصيق.
وأشارت المصادر إلى أن جملة المتاجر المُحترِقة بلغَتْ أكثر من (350) متجراً بسوق التوابل والعطور والأواني المنزلية، مؤكدة عدم حصر الخسائر المادية حتى وقت متأخر من مساء أمس، نظراً لاستمرار عمليات الإطفاء حتى المساء، وأضافت: “عملية حصر الخسائر ستكون عبر لجنة مُختصّة نسبةً لكبر حجم الحريق واتساع رقعته، لكنها عادت وقدّرتها بمليارات الجنيهات”.
قصصٌ على ألسنة التجار
التاجر الفاتح محمد دوليب كان واقفاً مع مجموعة من زملائه يضع كمامة على أنفه، يشرح لهم كيفية وصوله ومحاولات فتح متجره الخاص بالعطور. ويذهب الفاتح في حديثه لـ(السوداني) أمس، إلى أن متجره لم يسلم منه شيء، موضحاً أن خسائره من النقد بلغت (250) ألف جنيه، دون حصر جملة خسائره، وأضاف: أغلب التجار فقدوا أموالهم نقداً داخل متاجرهم، منبهاً إلى أن كل التجار لا يودعون أموالهم في البنك. وأشار إلى أن أحد جيرانه ويدعى (ع.د)، أصيب بجرح عميق في بطنه بعد أن حاول اقتحام المتجر من أعلى السقف لإنقاذ مليار ونصف المليار من النقد وانهار به الزنك، وأسعف إلى السلاح الطبي. دوليب أقر بأن شرطة الدفاع المدني بذلت جهداً مقدراً رغم وصولها المتأخر.
صاحب دكان توابل مجاور للجزارة يُدعى عثمان علي، وجدته (السوداني) يرتدي (جلابية وطاقية)، مُنهمكاً في تنقيب أكوام محروقة، باحثاً عن شيءٍ لم يُصِبْه النار. عثمان كان يرد على المارة وبعض المعارف بعبارة (الحمد لله ربنا قدَّر كدا)، مؤكداً في حديثه لـ(السوداني) أنه تلقَّى اتصالات عدَّة من جيرانه في سوق أم درمان وجميعها في وقتٍ واحدٍ عند الساعة الثالثة صباحاً، وأضاف: “عاودت الاتصال بأحدهم فأخبرني بأن السوق اجتاحته النيران”. وأكد عثمان أنه استقل سيارته وأسرع نحو متجره لكنه وجد النيران تحاصره من كل جانب قبل أن تقضي على كل شيء بداخله حتى الحديد عدا (مصب زيت) بلاستيكي أخرجه للصحيفة مندهشاً، وأضاف: “فوجئت به سالماً رغم توسطه البضائع المحروقة وعندما تفحصته وجدت بداخله (عنكبوتاً) حياً لم تلمسه النار، مُكرِّراً (سبحان الله)، مقدراً خسائره بـ(300) ألف جنيه.
محمد علي شاب في العقد الثالث من عمره، نجا متجره الخاص بالعطور من الحريق، لكنه رابط منذ الثالثة صباحاً يساعد زملاءه وجيرانه في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كاشفاً في حديثه لـ(السوداني) أمس، عن أنه تلقّى اتصالاً فجراً يُخطِرُه بالحريق، ليُسارع بعدها إلى السوق وعقارب الساعة تُشير إلى الثالثة صباحاً، وأضاف: “وجدتُ متجري سالماً لم تمتد إليه النيران رغم كثافتها، وانخرطتُ في إنقاذ بضائع جيراني”.
علي عبد الرحمن وجدته (السوداني) يجلس على (تربيزة) قصم ظهرها الحريق، ملقياً بنظرات حزينة على متجره المحترق. عبد الرحمن أكد في حديثه لـ(السوداني) أمس، أنه يعمل في بيع الأواني المنزلية، وعند علمه بالحريق حضر إلى السوق حوالي الساعة السابعة صباحاً ووجد النيران قد قضت على متجره تماماً، مُقدِّراً خسائره بـ(مليار) و200 ألف جنيه ضمنها (130) ألف جنيه احترقت داخل المتجر، وأضاف أن عدداً من التجار فقدوا أموالاً نقدية تقدر بمليارات الجنيهات داخل متاجرهم تركوها في الخزن بفعل الإجراءات الاقتصادية الأخيرة بتحديد سقف الصرف من البنوك، وصفها عبد الرحمن بالأموال الضخمة نظراً لمعرفته بتجار السوق وحجم أموالهم وتجارتهم.
علي كشف عن أن ثمة عوامل ساعدت على اشتعال النيران وامتداد رقعتها، وهي (المشمّعات) التي تُغطَّى بها البضائع في دكاكين التوابل والعطور والكريمات بفعل احتوائها على مواد كيميائية، منوهاً إلى أنه لا يعلم متى بدأ الحريق بالضبط، لكنه علم من بعض الروايات أنه انطلق من الجهة الشرقية للسوق، وهي الجهة المقابلة لمتاجر الكريمات والأواني، وأضاف: “لا نُحمِّل الدفاع المدني المسؤولية بل بالعكس قد أبلوا بلاءً حسناً”؛ لكنه عاد وقال: “نحملها للمحلية في مسألة تنظيم السوق”، واضاف: “لا نُعفي أنفسنا من التقصير في بعض الأمور المتعلقة بالتنظيم”.
وختم علي حديثه بأن الحادثة صاحبها تقصير كبير من السلطات الأمنية في عدم ضرب سياج على المنطقة المحترقة ومنع المواطنين من التجوال فيها نسبة لوجود مواد كيميائية، مشيراً إلى بعض عمليات السرقة التي صاحبت الحادثة من قبل (الشماسة).
سوق الكريمات والعطور وقع عليه النصيب الأكبر من الضرر، إذ قضت النيران على أغلب البضائع دون أن يعمل أصحابها على إنقاذ ولو جزء يسير منها. وأكد صاحب محل كريمات محمد بشير صديق في حديثه لـ(السوداني) أمس، أنه ظل مشغولاً بمُحاولة البحث داخل الأنقاض عن الكريمات ليحملها خارج المحل مُحاولاً إنقاذ شيء ولو يسير، منوهاً إلى أن بضاعته أكثر من 700 مليون جنيه إضافة إلى (الكاش) الذي وصل إلى 105 ملايين جنيه.
فيما أكد صاحب محل القناعة للكريمات والعطور حسن جمعة، أن النار قضت على 280 مليون جنيه تخص شقيقه المغترب بسلطنة عمان فضلاً عن بعض أموال زملائه بالسوق كـ(الصندوق)، مشيراً إلى أن محله لم يسلم، لافتاً إلى أنه استلم أمسية ما قبل الحريق عدد 20 كيلوغرام من الصندل بقيمة 200 مليون جنيه لم يسددها؛ في وقت كشف فيه محمد علي – صاحب محل كريمات – أن قيمة بضاعته 600 مليون إضافة إلى 300 مليون جنيه كاش.
ربما بسبب ما تعرّض له التاجر الياس الحسن ألجمته الصدمة ومنعته الحديث لـ(السوداني)، إذ تعرّضت ثلاثة متاجر خاصة به لحريق كامل من عطور وكريمات لم يخرج منها بشيء، واعتذر عن الحديث.
سوق العدة حاله يغني عن سؤاله، وأكد صاحب محل الأواني مدثر عبد الله، أن قيمة بضاعته بلغت أكثر من مليار إضافة إلى 500 مليون جنيه كاش.
فيما جاء شوقي حسن صاحب متجر تفحم تماماً يحمل بين يديه المصحف الشريف الذي سلم من الحريق رغم احتراق المحل تماماً. بينما بلغت خسارة عبد المطلب أحمد صاحب متجر للأواني المنزلية مليار و200 جنيه خلافاً للكاش الذي وصل إلى 124 مليون جنيه.
الحاجة زينب محمد الفضل جاءت والدموع تملأ عينها كاشفة لـ(السوداني) أمس، أنها تعمل في بيع الشاي لأكثر من 18 عاماً، وأضافت: “خسرتُ عدَّتي وقيمتها أكثر من 4 ملايين بالإضافة إلى 5 ملايين كاش، منوهةً إلى أنها تعمل على تربية أكثر من خمسة أطفال أيتام من بيع الشاي، وأنها بحريق المحل فقدت مصدر دخلها.
ورصدت (السوداني) في جولتها، أن السنة اللهب تمتد بخجل حتى الثالثة ظهراً وما ساعدها على ذلك وجود العطور وبعض الكريمات، فيما عملت قوات الشرطة على إخلاء السوق من المارة بعد الاكتظاظ الذي شهده خاصة من النساء اللائي ظللن يتجولن داخل المحلات المحترقة.
النيران قضت على مبنى كامل، وانهار انهياراً كاملاً مما اضطرّ الشرطة إلى إغلاق الشارع المؤدي إليه.
ماذا قالت الشرطة؟
شرطة ولاية الخرطوم أكدت في تصريح تحصلت عليه (السوداني) أمس، أن حريقاً اندلع فجر أمس (السبت) بسوق أم درمان أدى إلى تلف بعض المحلات التجارية العاملة في تجارة العطور والأواني المنزلية والخردوات، وأن شرطة الدفاع المدني بولاية الخرطوم هرعت إلى مكان الحادث واستطاعت إطفاء الحريق وحصره في نطاق ضيق، وعملت على فصله عن بقية المحلات التجارية الأُخرى المُجاورة دون وقوع خسائر في الأرواح. وقال مدير شرطة الولاية الفريق شرطة إبراهيم عثمان عبد الرحيم من موقع الحدث أمس، إن الشرطة مُستمرّةٌ في التحقيقات وتكملة الإجراءات لمعرفة أسباب الحريق.
أم درمان: محمد أزهري – تفاؤل العامري
صحيفة السوداني.