رأي ومقالات

ضياء الدين بلال: قبل فوات الأوان!


-1-جميعكم تذكرون:
حينما أُعلنِتْ السياساتُ الاقتصادية قبل ثلاثة أشهر، وتمَّ اختيار لجنة أُطلق عليها (آلية صُنَّاع السوق)، قيل بصورة واضحة دون لبس، إن سعر الصرف سيكون خاضعاً لسوق العرض والطلب.
كان الوعد: الحكومة لن تتدخَّل في تحديد السعر، والآلية – التي وُصِفَتْ بالمُستقلَّة – ستجتمع بشكلٍ يوميٍّ باتِّحاد المصارف، لا لتحديد السعر ولكن لإعلانه وفقاً لمُعطيات السوق.
هدفُ السياسة، كما وصفه رئيس الوزراء معتز موسى في الاجتماع الذي أعقب القرارات: إخراج السوق الأسود من الأزقة والظلام، إلى الضوء والعلن.

-2-
أرادت الحكومة من ذلك فكَّ الخناق عن الاقتصاد السوداني، وإخراج الجنيه من غُرَفِ العنايةِ المكثَّفة، ووضعهِ في مكانٍ طبيعيّ، دون الاستعانة بجهاز التنفس الاصطناعي.
قال البعض: وجودُ لجنةٍ تُعيِّنها الحكومة – وتصفها بالمُستقلَّة – مُهمَّتها التحديد اليومي لسعر الصرف، في ذلك تَحَكُّمٌ وسيطرةٌ حكوميةٌ، ولكن: من وراء حجاب.
قلنا حينها: لا فرق بين أن يكون السعرُ المُحدَّدُ تفرضه لجنةٌ حكوميةٌ بمباني البنك المركزي، أو لجنةٌ مُستقلةٌ تُصدِر قراراتها من اتحاد المصارف!
زيادة جنيهٍ واحدٍ عن سعر اللجنة، يجعل هناك فرقاً يُغرِي بالتجاوز، سيَحدث ذلك حتى ولو كان الرِّهانُ على ضيق فارق السعر، واتساع نطاق المُجازفة؟
وحذَّرنا من عدم وضوح الرؤية، ووضع السياسة الجديدة في المنطقة الرمادية (تحرير ولا تحرير)، فهذا سيُؤدِّي إلى تناسل الشُّكوك وترسيخ سوء الظَّنِّ في القرارات الحكومية.

-3-
وأضفنا لذلك القول: على حكومة رئيس الوزراء معتز موسى، إدراكُ أن سبباً أسَاسيَّاً من أسباب فشل السياسات السابقة، هو فاقد الثقة بين الحكومة والمُتعاملين معها في المجال الاقتصادي.
رأسمال رئيس الوزراء معتز موسى الحقيقي، هو الثقة والإيمان بأنه الرَّجُل المُناسب في المكان المُناسب في الوقت المُناسب.
رأسمال يجب أن يحافظ عليه، ولن ينجح في ذلك إلا بالصَّراحة والوضوح، ووضع النقاط على الحروف، وعدم السَّير في الطُرُق المُلتوية، واستخدام العبارات الصابونية، التي أفقدت البلاد كثيراً من الفرص، وأَهدَرَت مصداقية كثيرين.

-4-
بعد ثلاثة أشهرٍ من تلك القرارات، اتَّضح الآن بالتجربة العملية، عدمُ فاعلية آلية السوق.
فارق السعر بين ما أعلنته الآلية قبل ثلاثة أشهر، وما هو موجودٌ في أزقَّة السوق الأسود، يتَّسع يوماً بعد يوم.
كان الهدفُ من الآلية أن يكون هناك سعرٌ واحدٌ للدولار، أو في أسوأ الأوضاع، يكون الفارقُ قليلاً بين السعرين. فارق لا يُغري بالمُغامرة ويُشجِّع على التعامل في الضوء.
الآن للدولار أكثر من سعرين، وفارق السعر في اتساع، يزيد كثيراً وقد ينقص قليلاً!

-5-
كان الهدف الأكبر للسياسات: تشجيع المُصدِّرين والمُغتربين، ومن بَعدهم تجَّار الذهب، حتى تدخل نقودهم الأجنبية في الدورة النقدية المصرفية.
فيترتَّب على ذلك استقرارٌ في سعرِ الصَّرف بعامل الوفرة.
التقاريرُ الأوَّلية تتحدَّث عن تراجع صادر بعض المحاصيل المُهمَّة، نسبةً لارتفاع الأسعار بسبب المُضاربات، وعدم مقدرتها على مُنافسة محاصيل دولٍ أخرى.
غالبُ المُغتربين لم يُنهوا تحالفَهم مع تجار السوق الأسود، وظلَّ الوضعُ على ما هو عليه قبل القرارات.
المصارف بين الرغبة والعجز، لا تمنح دولاراتٍ للمحتاجين، وليست لديها سيولة محلية لشراء العملات الأجنبية!

-6-
إذن، والحال على ما وصل إليه، لا بدَّ من واحدٍ من خيارين:
الأول/ مُراجعة السياسات وتعديلها عطفاً على مُحصّلة النتائج، وفارق حسابات الحقل والبيدر.
الثاني/ التراجعُ الكليُّ عن السياسات والبحثُ عن بدائل أكثر واقعية، تُوقف التدهور وتمنعُ النزف، قبل أن تشرع في العلاج الكُليِّ لأزمات الاقتصاد.
الحقيقةُ التي لا مفرَّ من مواجهتها، تجاوز الأزمات الاقتصادية الكلية بالمُعالجات المحلية، لا تُعين عليها الإمكانيات المُتاحة ولا يسمح بها الوقت المُتبقِّي من الـ 400 يوم.

-أخيراً-
لا يُمكن في مسعى الترقِّي عالياً التَّحليقُ بجناحٍ واحد، ولا التَّنفُّسُ بنصفِ رئةٍ عند مُمارسة الرياضة الشاقَّة.

ضياء الدين بلال
السوداني