رأي ومقالات

مقاربة في السياسة وتطوراتها في السودان وإثيوبيا

تحاول هذه الدراسة، فهم قضايا الدين والهوية والعرق والقبيلة وكذلك فهم أطروحات الجماعات السياسية وأثر ذلك على البنية الاجتماعية والتماسك الوطني والسلام والتنمية وقضايا الجهل والفقر، ومدى نجاح السياسة في البلدين مواصلة بناء نسيج وطني، يستوعب قضية المواطنة ويسوق المجتمع في اتجاه التماسك ويسخر مطلوبات التدين والهوية والعرق والجهوية في اتجاه التصالح والتسامح والتعافي ويضع الطاقات في اتجاه السلام والتنمية.

حينما استقل السودان
كان الاستقلال هدية الإدارة الإنجليزية لقوة دفاع السودان التي حاربت حروب الامبراطورية في شرق إفريقيا وغربها، وكذلك هدية للنخب التي تخرجت من مدارس الإدارة الإنجليزية وتدربت على أيديها وساندت الإدارة في تثبيت أركان الحكم والاستقرار على امتداد السودان، حيث أنشأت مجالس الحكم المحلي منذ عام 1921م في الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان وبورتسودان وفي عام 1941 – 1942م وضع السير دوجلاس نيوبولد Douglas Newbold السكرتير الإداري تصوراً للمجلس الاستشاري لشمال السودان والذي أصبح في عام 1945م الجمعية التشريعية المؤيدة من قبل السيد عبد الرحمن المهدي والتي برز في إطارها من حكام السودان السيد/ عبد الله خليل والذي تخرج من مدرسة قوة دفاع السودان، كما تم إنشاء مدرسة الخرطوم للقانون عام 1936 والتي أصبحت فيما بعد جزءاً من كلية غردون التذكارية والتي خرَّجت قضاة السودان ومحامييه الذين كانوا يترافعون بالإنجليزية ويصدرون أحكامهم كذلك بالإنجليزية وحتى القضاة الشرعيين تخرجوا من مدرسة القانون أو كلية غردون ووزارات كليات الزراعة والبيطرة والطب والإدارة، ولذا حينما استقل السودان، فإن الذين حملوا مسؤوليات السودان، هم الذين تخرجوا وتدربوا على أيدي الإدارة الإنجليزية من عبد الله خليل أول رئيس وزراء ” الجمعية التشريعية ” إلى إسماعيل الأزهري، سليل الأزهري الكبير، الموقع على سِفر الولاء ومن الموقعين على مذكرة 24 الرافضة لحركة علي عبد اللطيف وما تلاها، والسيد علي الميرغني الأب الروحي للإدارة الإنجليزية وللاتحاديين فيما بعد والسيد/ عبد الرحمن المهدي الأب الروحي للاستقلاليين واللواء أحمد محمد علي، والفريق إبراهيم عبود وانتهاء بجعفر نميري.. وما تزال هذه المجموعات تحكم السودان فبعد انتفاضة أكتوبر 1964، أعيد تنصيب ذات النخب التي أطاح بها انقلاب عبود، فعاد الأزهري والمحجوب والصادق المهدي وعبد الخالق محجوب وعلي عبد الرحمن ود. الترابي، وكذلك بعد انقلاب النميري، تكررت ذات الأسماء وخصوصاً بعد المصالحة الوطنية، وبعد انتفاضة أبريل 1985م، تكررت ذات الأسماء، السيد الصادق المهدي والسيد أحمد الميرغني، ومحمد عثمان الميرغني وتلامذتهم، والترابي ومجموعته. أما الإنقاذ، فقد قطعت الطريق على جون قرنق ومجموعته، في ظل عباءة الترابي، وتحالفاته مع العسكريين والآن تعيد على هامشها ذات مجموعات آل المهدي وآل الميرغني والبيوت الصوفية والسلفية على معيار السوق السياسي لكل وزنه وهمته وولاؤه، وأن أكبر خصم لها وهو جون قرنق، والذي كان من المنظور ربما يؤدي وجوده إلى تغيير في الأوزان الاجتماعية والسياسية، إلا أنه توفي في حادث احتراق طائرته في كوش الجديدة، الحدود السودانية/ اليوغندية في 30 يوليو 2005م بعد ثلاثة أسابيع من تقلده مهام النائب الأول لرئيس الجمهورية، ولعل أكبر تأثير لحذف د. جون قرنق من المشهد السياسي السوداني، وخلو الجو للانفصاليين في جنوب السودان، وانفراد العسكريين وحلفائهم من الإسلاميين في السودان بأموره، خصوصاً بعد إقصاء د. الترابي وموت جون قرنق، فأصبحت الحركة الإسلامية الموالية للسلطة أداة لكسب المشروعية والدفاع عن الأمر الواقع، ولعل الفارق بين المهددات المحيطة بإثيوبيا هي مهددات نمو الدوافع القومية والعرقية وهي مهددات تتعلق أساساً بالدولة ككيان وتاريخ وكتلة روحية/ ثقافية بينما المهدد الأساس للسودان بعد انفصال الجنوب، هو الوضع الاقتصادي وتلاشي قوة الجنيه السوداني في ظروف حصار ووجود السودان في قائمة الإرهاب الأمريكية.

وعلى عكس إثيوبيا، فإن تيار الثقافة التاريخية السودانية” الثقافة الإسلامية ببعدها العربي”Ў ظلت تتقوى في السودان، حتى في ظروف الحكم الثنائي والإدارة البريطانية، وحينما تم إعلان الجمعية التشريعية وخرج منها مجلس تنفيذي، كان هم وزير المعارف حينها، عبد الرحمن علي طه، إدخال اللغة العربية في النظام التعليمي في جنوب السودان، وحينما جاءت حكومة الأزهري الأولى، ساوت معلمي اللغة العربية بنظرائهم من المعلمين، وحينما جاءت حكومة الفريق عبود، قامت بطرد المبشرين من الأجانب من جنوب السودان وبذرت بذرة المعاهد الإسلامية في مدن الجنوب وفي ظروف ما يسمى بثورة أكتوبر 1964، تم تعريب المناهج في المدارس السودانية، بعد أن كانت اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس وفي فترة الرئيس نميري جاء مشروع القيادة الرشيدة لعام 1976م تمت المصالحة الوطنية والتي في إطارها في عام 1983م صدرت قوانين الشريعة الإسلامية، وواصلت حكومة الإنقاذ برامج التأصيل والتمكين للثقافة العربية الإسلامية، فقامت أقسام الدراسة الإسلامية في جامعة الخرطوم وجامعة للقرءان الكريم وتوسع في الجامعة الإسلامية في إطار ثورة التعليم العاليЎ وتضاعف عدد المساجد في الخرطوم إذ ربما يزيد عن المائة، ضعف عما كانت عليه في ظروف الاستقلال .

وعلى عكس مسار حركة القومية الإثيوبية بأبعاده الكنسية، سادت حركة الثقافة والهوية، حيث قام نظام منقستو بتصفية هياكل القومية الإثيوبية المتمثلة في كيان الإمبراطور والإقطاع والكنيسة والنخب الأمهرية، ثم جاء نظام جبهة تحرير التقراي بقيادة زيناوي، ففصل تماماً الدولة عن الدين واعترف بالتعددية الإثنية والعرقية والثقافية للشعوب الإثيوبية، وخصها في تقرير المصير، وتتحدث ظروف إثيوبيا عن الصراع الأورمو / الصومالي على الأرض والذي أدى لتهجير أكثر من مليون نازح، وعن التطهير العرقي الجزئي الذي وقع في أديس أبابا، حينما هاجمت عناصر الأورمو وكاد أن تفتك بالتقراي وغيرهم، لأنه حسب الشعارات الشعبوية يريدون أن تخلص أديس أبابا للأورومو كما أن إثيوبيا اعتقلت 63 من الضباط التقراي ومسؤولاً في المخابرات بسبب النهضة(*) وكذلك فإن الصراعات العرقية تنتشر والاحتقان يزداد خصوصاً وسط التقراي، وإذا ما نفذ رئيس الوزراء تهديده بتقصي ومتابعة فساد وثراء النخب التقراوية والذي رمزه عمارات نخبة التجراي الممتدة في شوارع أديس أبابا، فإن ذلك ربما يعجل باندلاع حروب القوميات وتدخل إريتريا لمساندة أبي أحمد، والقومية الصومالية في الأوجادين تنتظر تدفق الغاز، حتى تستأثر به، والعفر يريدون المثلث العفري- والأورومو والجنوب يعتقدون ألا إثيوبيا بدونهم وحتى إن ذهبت إثيوبيا التاريخية فإن إثيوبيا المستقبل هي الأورومو والجنوب.

وبينما تزداد اللحمة الدبلوماسية والسياسية، ما بين القيادات الإثيوبية والإريترية والصومالية والجيبوتية، жيظل السودان وكأنه بعيد عن هذا المسار، نسبة لإغلاق السودان حدوده مع إريتريا ولذلك لم يظهر السودان، في لقاءات أديس وأسمرا وجيبوتي بين الرؤساء الأربعة، مع أن السودان هو القوة البشرية والاقتصادية المرجحة لأي توازن في القرن الإفريقي، ومع أن منظومة الجبهة الديمقراطية الثورية الحاكمة في إثيوبيا، حدث فيها انقلاب داخلي، جعل القيادة فيها للأورمو والأمهرة، إلا أن شعبيتها تزداد وفرصها في الفوز في انتخابات حقيقية مؤكدة في ظل ديمقراطية ومنافسة مفتوحة على عكس السودان، فإن تنظيمه الحاكم يشهد تراجعاً، وحلفاء المؤتمر الوطني لا وزن اجتماعي لهم باستثناء الجماعة الموصولة بالختمية، أما الحركة الإسلامية، فقد أصبحت جماعة دفاع عن السلطة وفقدت مبادرات الشهادة حول الأوضاع السياسية والاقتصادية وضربتها الشيخوخة، حيث لم تفتح النوافذ للشباب ولم تستطع خلق قيادات شبابية في النقابات والاتحادات، وتتحرك في ظل التركيبة السياسية والاقتصادية بالقوة السلطانية، ويمكن أن تكون ظروفها أفضل في ظل إعادة تركيبة تجمع مكوناتها القديمة، مثل المؤتمر الشعبي والإصلاح، والإصلاح الآن، والأخوان المسلمين والسلفيين، عسى أن يولد ذلك قيادة قادرة على فهم الواقع وطرح مبادرات اجتماعية وسياسية تؤدي إلى إعادة الحياة إلى النقابات والاتحادات وبعث ثقافي وسياسي ورياضي على مستوى الجامعات والمعاهد . وأن يستعيد الخطاب الإسلامي عافيته فينظر للواقع وُيشَخّص الحاضر ويستعد للمستقبل بدلاً عن الانكفاء على الماضي.

ولا تبدو الأمور على امتداد الغرب الإفريقية مبهجة، فعلى قوة الدولة الإثيوبية، التي مطارها من أفضل مطارات القارة وخطوطها الجوية كذلك الأولى على مستوى القارة وعملتها راسخة حيث وضع البر الإثيوبي أفضل من الجنيه السوداني أو النقفة الإريترية ولكن مع ذلك، فإن رياح وعواصف القوميات والعرقيات والشعوبية قد تعصف بهذا البناء الشامخ وأما إريتريا فإنها تتراجع إلى الوراء حسب ميزان حقوق الإنسان والتنمية البشرية ولا خيار إلا موالاة النظام أو السجن أو الهروب لدول الجوار، وجيبوتي أصبحت تتكسب من ربع تأجير أراضيها قواعد عسكرية لفرنسا وأمريكا والصين واليابان وكل من يدفع، ومن يستأجر الأرض قد يستأجر الرحم والأخلاق، أما الصومال فلولا الغطاء الأمريكي والأوروبي وقوات الاتحاد الإفريقي فإنه مجرد لقمة سائغة في يد حركة الشباب الإسلاميЎ أما السودان، فإن تآكل الوضع الاقتصادي الذي جعل رواتب موظفي الخدمة العامة لا يفي بالمطلوبات، ولا يزال الجنيه يتدحرج مما جعل الفساد المشترك الأعظم في تقديم الخدمات الاجتماعية والحكوميةЎ ومع ذلك فإن المجتمع السوداني بفضل ثورة الذهب ومخرجات المغتربين أفضل مآلاً بكثير من وضع الدولة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
( قراءة مقارنة في الستين سنة الأخيرة عن أوضاع البلدين)

بقلم: البروفيسور حسن مكي محمد أحمد
صحيفة الإنتباهة