أمتِّع نفسي بالدهشة
قال الشاعر الراحل عمر الطيّب الدوش في رائعته الحزن القديم التي تغنى بها المرحوم الفنان وردي:
تجيني، معاك يجيني زمن أمتِّع نفسي بالدهشة
طبول بتدق وساحات من فرح نوَّر وجمَّل للحزن ممشى
والتمتع بالدهشة حالة عميقة من حالات التوجس.
الحالات التي سوف أرصدها في هذا المقال تجبر على التمتع بالدهشة.
قبل أن أبدأ بسرد الحالات أكرر للمرة العشرين حكمة العالم الفيلسوف الكبير أنشتاين عندما قال: (الجنون أن تكرر الخطأ نفسه وتتوقع نتيجة مغايرة) (Insanity IS repeating the same mistake and expecting different result).
الحالة الأولى: قرأت الأسبوع الماضي، أن أزمة الطيران المدني مع شركات الطيران الأجنبية والتي نشأت عندما طالبت سلطة الطيران المدني تلك الشركات ببيع تذاكرها للمسافرين بالعملة المحلية، بالسعر الرسمي وهو (47.5) جنيه للدولار، مما حدا بالشركات أن أعلنت إيقاف بيع التذاكر مع احتمالات توقف سفرياتها، قرأت أن السلطات توصلت مع شركات الطيران إلى اتفاق يقضي ببيع التذاكر للسودانيين بالعملة المحلية على أساس (47.5) جنيه للدولار وأن بنك السودان سوف يلزم البنوك بتحويل مبيعات الشركات إلى دولار بسعر (47.5) جنيه أيضاً على أن توفر البنوك العملة الأجنبية من حصائل الصادر.
مصدر الدهشة أن هذا الأمر قد جُرِّب قبل مدة ولم تلتزم البنوك بالتحويل، مما حدا بالشركات إلى بيع التذاكر بالدولار حتى تم إيقافها عن ذلك في الأسبوع الماضي، ونشأت الأزمة – مثلنا الشعبي يقول: (من جرب المجرب حاطت بيهو الندامة)، إعادة التجربة الآن في ظروف اقتصادية أصعب من السابق يحتم عودة الأزمة إلى المربع الأول المؤدي إلى توقف رحلات شركات الطيران كلياً أو جزئياً، ويضار من ذلك العديد من المسافرين لأغراض معظمها ملحة.. كيف يمكن للبنوك توفير العملة الصعبة والسيد رئيس الوزراء يصرِّح الأسبوع الماضي، في زيارته لقطاع التعدين كما ورد في صحف الأربعاء 6 فبراير (آخر لحظة)، أن العجز في الميزان التجاري يبلغ (6) مليارات دولار، وكما هو معلوم الميزان التجاري هو الفرق بين عائدات الصادرات ومصروفات الواردات – حصيلة الصادر في تناقص، والمنافسة في الحصول على جزء منها محتدمة بين طلبات الحكومة في توفير الدقيق، القمح، المواد البترولية، السكر والأدوية، وطلبات القطاع الصناعي والزراعي في توفير مدخلات الإنتاج، إضافة إلى طلبات التجارة من الإسبيرات والمواد الغذائية وغيرها، مثل تحويلات شركات الاتصالات الأجنبية وقطع غيار معدات البنيات التحتية من كهرباء ومياه وسيارات حكومية، في ظل ذلك العجز الهائل تصبح أولوية حصول شركات الطيران على عملة صعبة من حصائل الصادر منعدمة، وبالتالي تعود الأزمة إلى مربعها الأول.
الحالة الثانية: هي إصرار رئيس الوزراء على مواصلة محاربة تجار الدولار وعدم لجوء الحكومة لهم قائلاً: (الفورة مليون) – الفورة في لغة (الكتشينة) نهاية دورة اللعب بعد حصول أحد الأطراف على مجموع لا يتعدى الخمسمائة – ما يعني أن الحكومة قادرة على الصمود ومواصلة المنازلة لسنوات.. هل هناك متسع من الوقت للحكومة للصمود ولا شيء ينبيء عن انفراج في إزالة عجز الميزان التجاري بواسطة زيادة مفاجئة في الصادرات، أو تلقي دعم عاجل من أي جهة خارجية.. لماذا كل هذا التعنت والتحدي في معركة من غير معترك.
تأكد الآن أنه لا توجد أي احتمالات لتلقي دعم عاجل.. وأن زيادة عائدات الصادرات تتطلب سنوات طويلة حتى تعود صادرات السودان الزراعية والمعدنية إلى ما كانت عليه، وكما أسلفنا في مقال الأسبوع الماضي، أن فجوة نقص عائد صادرات البترول بعد انفصال الجنوب تم (ردمها) بواسطة تجار العملة حتى العام 2017، والذين لجأت لهم المؤسسات الرسمية والقطاع الخاص.
بعد حرب 2018 على أولئك التجار تعمّقت الأزمة وزاد العجز وشحت السلع وارتفعت أسعارها والشارع ثار وسار.
الحالة الثالثة: أبرزت صحيفة (آخر لحظة) في عدد الأربعاء 6 فبراير، وهي تغطي لقاء رئيس الوزراء بقطاع التعدين أن وزير المعادن صرّح بأن الذهب المنتج في العام 2018 بلغ (93.8) طن، والذي تمت السيطرة عليه من هذه الكمية (22) طناً – أي فقط (23%) من كل الكمية المنتجة – أين ذهبت الـ(77%) وكيف يمكن ردم فجوة عجز ميزان المدفوعات وخارج سيطرة الحكومة (77%) من أهم موارد الصادرات، مضافاً إلى ذلك تصريح مسؤول كبير في شركة الصمغ العربي بأن (65%) من إنتاج الصمغ يُهرَّب وخارج سيطرة الدولة، خاصة بعد تجميد شركة الصمغ العربي الحكومية.
الحالة الرابعة: التفاعل القوي الشجاع من مدير جهاز الأمن والمخابرات مع حادثة مقتل الشهيد المعلم أحمد الخير في خشم القربة وفي معتقلات جهاز الأمن.. بتكوين لجنة عليا رفيعة برئاسة فريق أمن، وبيان إعلام الأمن المصاحب لقرار تكوين اللجنة الذي فيه ترحمٌ على الشهيد ومواساة لأسرته، وفيه تأكيد على رفض العنف المفرط المفضي إلى الموت بسبب تفلت بعض أفراد من الجهاز، وأيضاً تأكيد على المحاسبة الحاسمة لكل من يثبت عليه التورط في الاغتيال دون محاباة أو عصبية مهنية لأفراد الجهاز، وأخيراً فيه نقل أمين عن نتائج التشريح وإيراد معلومة وجود أثر كدمات في جسم المرحوم، خاصة منطقة الظهر.
تلى قرار مدير جهاز الأمن تكوين لجنة التحقيق، تقرير لجنة النيابة العامة الذي تلاه رئيس اللجنة في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي، مؤكداً أن أسباب وفاة المعلم الشهيد أحمد الخير هي التعذيب والضرب بآلة حادة وأخرى مرنة في أماكن حساسة من جسم المرحوم، وهذا فضح بجلاء تصريحات كبار المسؤولين في رئاسة ولاية كسلا، التي أغفلت ذكر تلك الكدمات وركزت على حديث فطير أن الوفاة بسبب التسمم.
هذا القرار الصائب من مدير جهاز الأمن أتاح لأعضاء اللجنة الفرصة المطلوبة لتعزية ومواساة أهل الشهيد دون توتر أو تشنج أو غضب، مما يتيح لهم العمل بكل ثقة ونزاهة وأمانة.
الحالة الخامسة: اللقاء المهم الجريء في التوقيت المناسب للسيد رئيس الجمهورية مع الصحافيين يوم الأربعاء 6 فبراير، هذا اللقاء أعطى ضوءاً أخضر لتوقع تغيير جذري وشيك في الحكم، تغيير يفضي إلى إعادة تكوين الجهاز التنفيذي، بسط الحريات السياسية والاجتماعية بتعديل أو إلغاء قانون النظام العام غير المواكب لتطلعات الشباب والأسر الكريمة، بل والمخالف لكل القوانين الدولية في مجال حقوق الإنسان والحريات والإنسانية، وربما يفضي التغيير إلى قرارات بشأن الانتخابات المتوقعة في 2020 وإعادة النظر في هياكل الحكم، وإبعاد بعض الولاة المغالين في التسلط والبطش، غير المحبوبين لغالبية مواطني ولاياتهم.
ختاماً نقول التغيير الجذري في الحكم وسياساته الداخلية والخارجية ضروري ومُلح أو الطوفان، ونورد للذكرى ما حدث للعرب بعد غزوهم واحتلالهم للأندلس (أسبانيا الآن)، في عهد الخلافة الأموية في العام (711م) ودحرهم للمسيحيين واليهود، وحكم الأندلس حتى العام (1492)، أي (781) عاماً.
لم يهتم الحكام العرب بشؤون المواطنين العاديين ومتطلباتهم في الإصلاح الزراعي وإزالة الإقطاع ورفع المعاناة عن مواطنيهم بعد أن دخلت غالبيتهم الإسلام.
بنوا القصور والحدائق الخاصة بهم وظهرت الخلافات العرقية والعنصرية والطوائف الدينية مما أتاح للمسيحيين فرصة ذهبية في ظل الفرقة والشتات لإعادة تنظيم صفوفهم وبدأوا في شن حملات عسكرية في كل إمارات الأندلس، حتى وصلوا إمارة قرينادا، وكان بها آخر خليفة هو محمد السابع الذي هُزِم في العام (1492م)، وقام بتسليمهم مفتاح المدينة وامتطى جواده وبجانبه والدته عائشة بت الأحمر المرأة القوية الملقبة بعائشة الحرة، نسبة لامتداد نسبها إلى الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. قبل أن يتحرك ألقى نظرة أخيرة على قصره وبكى بكاءً حاراً وكان عمره (32) عاماً (ميلاده 1460م)، قالت له والدته: (لا تبكِ كما تبكي المرأة، فقد ضيّعت ملكاً لم تحافظ عليه كرجل)(Do not weep as a woman for what you could not defend as a man).
تقرير:عمر البكري أبو حراز
صحيفة اخر لحظة.