هذه الهجمة على إلهان عمر ورشيدة طليب
لا يكاد يتوقف هجوم على أول نائبتين أميركيتين من أصول عربية ومسلمة حتى يبدأ آخر. وعلى الرغم من تعدد الأسباب وراء الحملات التي تشنُّ عليهما، إلا أن ثمّة عاملا ثابتا في تلك المعادلة، وهو موقفهما المعارض سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وتأييدهما حقوق الشعب الفلسطيني. تلك المواقف جرّت عليهما المتاعب تلو الأخرى، وصلت، الشهر الماضي، إلى حد تقديم عضو مجلس نواب جمهوري مشروع قرار يدين النائبة من أصول فلسطينية، رشيدة طليب، والنائبة من أصول صومالية، إلهان عمر، بتهمة “معاداة السامية”. وقبل أيام فقط، هدّد زعيم الجمهوريين في مجلس النواب، كيفين مكارثي، طليب وعمر، بالعقاب إذا استمرتا في انتقاد إسرائيل، معتبرا ذلك من صور “معاداة السامية”، وهو ما استفز الصحافي الأميركي، غلين غرينوولد، وهو يهودي ليبرالي، فغرّد مندّدا بذلك، كما ندّد بمواقف ساسة أميركيين كثيرين يقضون وقتا طويلا في الدفاع عن دولة أجنبية، هي إسرائيل، حتى ولو عنى ذلك الدوس على حق حرية التعبير للمواطنين الأميركيين. وقد أعادت عمر نشر تغريدة غرينوولد، وعلّقت عليها، بالقول: “إن ذلك بسبب المال”. وعندما سألتها صحافية في صحيفة “ذا فوروورد”، اليهودية الأميركية، عن هوية من تتهمهم بدفع الأموال للمسؤولين الأميركيين ليكونوا مع إسرائيل، أجابت إلهان: “إيباك”، في إشارة إلى لجنة الشؤون العامة الأميركية – الإسرائيلية، وهي أكبر ذراع للوبي الصهيوني في واشنطن.
مباشرة، بعد إجابة إلهان، حرّك اللوبي الصهيوني أذرعه في الولايات المتحدة، وشنَّ هجوما شرسا عليها، واتهمها بـ “معادية السامية”. وزعم أن حديثها عن توظيفه المال للتأثير على المسؤولين الأميركيين إحالةٌ إلى الصورة النمطية التي يشيعها بعضهم عن اليهود بأنهم
“أدرك اللوبي الصهيوني وحلفاؤه في الولايات المتحدة أن إسرائيل تخسر مكانتها لدى الرأي العام الأميركي”
يسيطرون على المال في العالم، ويوظفونه لخدمة مصالحهم. وتتالت بعد ذلك الانتقادات الحادّة التي نزلت على إلهان، ليس فقط من الجمهوريين، بدءا من الرئيس دونالد ترامب الذي طالبها بالاستقالة، بل وكذلك من الحزب الديمقراطي نفسه، وزعمائه، كرئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، التي دعت إلهان إلى الاعتذار، وهو ما فعلته الأخيرة، مؤكّدة أنها لم تقصد الإساءة لليهود، مع إشارة إلى أنها لا تزال تعتقد أن جماعات الضغط (اللوبيات) تعتبر “إشكالية” في الساحة السياسية الأميركية “سواء كانت إيباك، أم الاتحاد القومي الأميركي للأسلحة (إن آر أيه)، أو قطاع الوقود الأحفوري”.
لم يتضمن تعليق إلهان عمر أي حمولة يمكن تصنيفها بـ”معاداة السامية”. ما تحدثت عنه إلهان أمرٌ أقرّ به غير مسؤول سابق في “إيباك”، وهو أمرٌ موثق، وقد أعاد صحافيون أميركيون نشره، بمن فيهم يهود مؤيدون لإسرائيل. ومسألة تأثير المال على الحياة السياسية في الولايات المتحدة أمر معروف وحساس، وهو محل صراعٍ بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، ووصل غير مرة إلى قاعات المحاكم الأميركية، ولا يتوقف الحزبان، والمسؤولون السياسيون الأميركيون، عن التراشق باتهامات الخضوع لسطوة المال من هذا “اللوبي” أو من ذاك. إذن، لا جديد هنا، بل إنه سبق للأستاذين الجامعيين المرموقين، جون ميرشايمر وستيف والت، أن ألفا كتابا، عام 2007، بعنوان “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية”، أثار ضجة كبيرة حينها، ووثق بشكل علمي حقيقة نفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. ولكن ما أثار حفيظة اللوبي الصهيوني، هذه المرة وبهذه الدرجة من الشراسة، أن حديث إلهان عن تأثير مال “إيباك” على مواقف السياسيين الأميركيين نحو إسرائيل، وتأييدها تأييدا مطلقا في الكونغرس، كسر تابوها في أميركا، حيث قد تكون هذه المرة الأولى التي يضع فيها عضو كونغرس، ما زال في منصبه، نفوذ اللوبي الصهيوني في واشنطن في دائرة الضوء مباشرة.
أبعد من ذلك، يدرك اللوبي الصهيوني وحلفاؤه في الولايات المتحدة أن إسرائيل تخسر مكانتها لدى الرأي العام الأميركي، خصوصا بين جيل ما يعرف بـ”الألفية الثانية”، وهم مواليد ما بعد عام 1983، والذين تُبدي نسبة كبيرة منهم، بما في ذلك الشباب اليهود الأميركيون، تعاطفا أكبر مع الفلسطينيين. أما الصدمة الأكبر للوبي الصهيوني في واشنطن فتمثلت في خسارة إسرائيل معركة الرأي العام داخل الحزب الديمقراطي، حيث أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة بيو الأميركية، في شهر يناير/كانون الثاني 2018، أن نسبة من يتعاطفون مع إسرائيل داخل الحزب الديمقراطي تبلغ 27% مقابل 25% يتعاطفون مع الفلسطينيين. المفاجأة الأخرى التي أظهرها الاستطلاع أن نسبة التعاطف مع الفلسطينيين بين الليبراليين واليساريين الديمقراطيين أكبر من نسبة التعاطف مع إسرائيل، بواقع: 35% – 19%، في حين قال 22% إنهم يتعاطفون مع الطرفين، و24% لا يتعاطفون مع أي منهما.
يدرك اللوبي الصهيوني خطورة هذه الأرقام، فالحزب الديمقراطي هو حزب الرئيس هاري ترومان الذي جعل من قيام دولة إسرائيل أمرا ممكنا عام 1948. ولكن حزب ترومان، والذي كان المحضن الطبيعي، عقودا طويلة، لليهود الأميركيين، يتغير موقف قواعده من إسرائيل بشكل مضطرد منذ أكثر من عقد، خصوصا مع تصاعد تأثير التقدميين بين صفوفه، والذين هم أكثر ميلا إلى نقد إسرائيل. ورشيدة الفلسطينية، وإلهان الصومالية، ليستا أول مسلمتين في
“ما تحدثت عنه إلهان أمرٌ أقرّ به غير مسؤول سابق في “إيباك”، وهو أمرٌ موثق”
الكونغرس فحسب، بل إنهما جاءتا محمولتين على أجنحة التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية أخيرا، وهما، كما تقدميين ديمقراطيين كثيرين، تؤيدان حركة مقاطعة إسرائيل بسبب احتلالها الفلسطينيين، المعروفة عالميا، بـ”بي دي أس”، والتي هي اختصار لـ: المقاطعة، وسحب الاستثمارات، والعقوبات. وتكتسب حركة “بي دي أس” زخما كبيرا في الولايات المتحدة منذ سنوات، خصوصا في الكنائس والجامعات الأميركية. وأمام فشل اللوبي الصهيوني وحلفائه في كبح جماح هذه الحركة، فإنهم يسعون، في السنوات الأخيرة، إلى تجريمها قانونيا، واتهام كل من يدعو إليها بـ”معاداة السامية”، وهو الأمر الذي أوضحته، في مقال سابق، في “العربي الجديد” (تهمة معاداة السامية لزجر أي انتقاد لإسرائيل).
باختصار، الحملة الشرسة من اللوبي الصهيوني وحلفائه على كل من طليب وعمر جزء من معركة أكبر لردع أي انتقاد لإسرائيل في الولايات المتحدة. يدرك اللوبي الصهيوني الأميركي أنه يخسر معركة الرأي العام، كما يدرك هو وحلفاؤه أنهم يخسرون بشكل متواصل دعم قواعد الحزب الديمقراطي. وبالتالي، لم يبق أمامهم إلا تشويه كل من يجد في نفسه الجرأة على نقد إسرائيل وسياساتها ولوبيها في واشنطن، عبر اتهامهم بـ”معاداة السامية”. ولعل في إعلان عدد من قادة الحزب الديمقراطي، الشهر الماضي، تشكيل تجمع يهدف إلى دعم مرشحين ديمقراطيين للرئاسة والكونغرس موالين لإسرائيل ما يؤكد حقيقة تحوّل إسرائيل إلى قضية حزبية، بمعنى أنها لم تبق تلك القضية محل الإجماع السياسي في واشنطن، وهنا هي الخطورة الكبرى لإسرائيل وهؤلاء. ولذلك، سنكون مع ردود أكثر شراسةً من المعسكر المؤيد لإسرائيل أميركيا.
العربي الجديد