مقالات متنوعة

تجديد أصول الفقه عند الدكتور الترابي – دراسة نقدية (1)


من آخر الأبحاث التي وفقت لإنجازها وحظي بتحكيم علمي من جهات تحكيم معتبرة بحث بعنوان: (تجديد أصول الفقه عند الدكتور حسن الترابي – دراسة نقدية)، وإن كان بعض جزئيات البحث هي مما جمعته قديماً ونشرته أثناء فترة الدراسة الجامعية ضمّنته في كتابي المنشور (إلكترونياً) بعنوان: (بيان كمال الدين والانتصار لسنة خاتم النبيين) في الرد على كثير من القضايا والمسائل على الدكتور حسن الترابي، وقد سبق أن نشرت بهذا العمود أكثر من عشرين مقالاً في مناقشة الدكتور الترابي في قضايا متنوعة، وقد رأيت أن قضية (التجديد في أصول الفقه) عند الترابي من القضايا التي تستحق أن تفرد ببحث خاص خاصة إذا تم الربط بين ما يعنيه من مصطلح (تجديد) وما أتى به من (فتاوى) و(آراء) كانت هي نتاج لما يعنيه من مصطلح (تجديد الفكر الإسلامي) و(تجديد أصول الفقه الإسلامي)، وفي حلقات ثلاث سأضع – بمشيئة الله تعالى – بين يدي القراء الكرام خلاصة هذا البحث وهو ما درج عليه عمود (الحق الواضح) في عرض خلاصات الأبحاث ونتائجها، وهذه الحلقة ستكون – بإذن الله تعالى – مقدمة للحلقتين القادمتين، ليقف الإخوة والأخوات على معنى التجديد في أصول الفقه ونبذة يسيرة عن إسهام العلماء فيه فأقول :

فإن علم أصول الفقه هو من أهم العلوم الشرعية، وتأتي أهميته من أنه العلم الذي يبنى عليه استنباط الأحكام الشرعية من جهة طرق الاستدلال الصحيح لها، فهو الطريق والسبيل للوصول إلى الأحكام الشرعية.
وقد وجد العناية الكبرى من المسلمين في القديم والحديث، ولقي اهتماماً كبيراً من جهة البحث فيه والتأليف وتنوع التصنيف فيه ما بين المطول والموجز، والمنثور والمنظوم، والمتن والشرح والمختصر.

وقد برزت دعوات متعددة ومتفاوتة فيما بينها، لإعادة صياغة البحث في أصول الفقه والتجديد فيه، انطلاقاً من الحاجة الظاهرة والتي يتفق عليها الكثيرون من أن بعض مصادر أصول الفقه وبعض مباحثه بحاجة إلى تنقيح، وهناك حاجة لإخراج ما ليس من أصول الفقه مما وجد بصورة مكررة في بعض المصادر الأصولية، وهناك حاجة إلى إضافة بعض المباحث مع وجود الحاجة لتسهيل بعض المسائل وتبسيطها ليسهل فهمها مع إثراء هذا العلم بالتطبيقات الفقهية للفروع خاصة المعاصر منها، فكان من هذه الدعوات ما هو مقبولاً، وكان منها غير المقبول؛ لمعارضته لثوابت شرعية تتعلق بمصادر التشريع المتفق عليها بين المسلمين وعدم تحققه بضوابط التجديد وإعادة الصياغة.
وبقيت هذه الدعوات دراسات نظرية ومقترحات وتوصيات ولم يكن لها من التطبيق ما يذكر في الوقت الذي تمس الحاجة لذلك.
ومما ينبغي تأكيده في هذا الاستهلال: أن الدعوة إلى إعادة الصياغة في البحث والتجديد في عرض مسائل أصول الفقه ليست دعوة وليدة، وإنما لها أصول تمتد إلى الماضي، وفي عبارات واضحة لعلماء محققين ما يبين ذلك، ومما أنتقيه للاستدلال على ذلك، ما يلي:
قال أبو الحسين البصري في كتاب “المعتمد”: (فأحببت أن أؤلف كتاباً مرتبة أبوابه غير مكررة، وأعدل فيه عن ذكر ما لا يليق بأصول الفقه من دقيق الكلام. إذ كان ذلك من علم آخر لا يجوز خلطه بهذا العلم).

وانتقد أبو المظفر السمعاني خروج بعض المصنفين في الأصول عن غاية العلم فقال في “قواطع الأدلة”: (ورأيت بعضهم قد أوغل وحلل وداخل غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل، وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير، ولا نقير ولا قطمير..).
وقال الغزالي في “المستصفى”: (ومعرفة المعرفة أعني العلم ثم العلم المطلوب لا وصول إليه إلا بالنظر فلا بد من معرفة النظر فشرعوا (أي المتكلمين) في بيان حد العلم والدليل والنظر ولم يقتصروا على تعريف صور هذه الأمور، ولكن انجر بهم إلى إقامة الدليل على إثبات العلم على منكريه من السوفسطائية وإقامة الدليل على النظر على منكري النظر وإلى جملة من أقسام العلوم وأقسام الأدلة وذلك مجاوزة لحد هذا العلم وخلط له بالكلام وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة كما حمل حب اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الإعراب جملاً هي من علم النحو خاصة وكما حمل حب الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر كأبي زيد رحمه الله وأتباعه على مزج مسائل كثيرة من تفاريع الفقه بالأصول فإنهم وإن أوردوها في معرض المثال وكيفية إجراء الأصل في الفروع فقد أكثروا فيه).

وقال ابن خلدون في “مقدمته” في ذم التوسع في علوم الآلات والوسائل: (كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه، لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها، وأكثروا من التفاريع والاستدلالات، بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد، وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة، فهي من نوع اللغو، وهي أيضاً مضرة بالمتعلمين على الإطلاق).
والنماذج لذلك كثيرة وهي دعوة مستمرة، أكدها بعض المحققين في علم أصول الفقه والمعتنين به من المتأخرين، قال الشوكاني في مقدمة «إرشاد الفحول»: (لأن تحقيق ما هو الحق هو غاية الطلبات ونهاية الرغبات لا سيما في مثل هذا الفن الذي رجع كثير من المجتهدين بالرجوع إليه إلى التقليد من حيث لا يشعرون ووقع غالب المتمسكين بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون).

وإن أردتُ الاستشهاد بكلام العلماء المعاصرين، فإني أنتقي قول الشيخ عبد الرزاق عفيفي حيث قال في مقدمة تعليقه على كتاب “الإحكام للآمدي” : (ولو سلك المؤلفون في الأصول بعد الشافعي طريقته في الأمرين: تقعيداً واستدلالاً وتطبيقاً وإيضاحاً بكثرة الأمثلة وتركوا الخيال وكثرة الجدل والفروض، واطَّرحوا العصبية في النقاش والحجاج، ولم يزيدوا إلا ما تقتضي طبيعة النماء في العلوم إضافته من مسائل وتفاصيل لما أصل في الأبواب، وإلا ما تدعو إليه الحاجة من التطبيق والتمثيل من واقع الحياة للإيضاح كما فعل ابن حزم لسهل هذا العلم على طالبيه، ولانتهى بمن اشتغل به إلى صفوف المجتهدين من قريب).
وفي الدراسات المعاصرة لقضية التجديد وإعادة الصياغة في بحث أصول الفقه نجد العناية بإبراز جهد العلماء المتقدمين في التجديد في هذا العلم، وإعادة صياغة بعض مباحثه والدعوة لتنقيته من بعض ما أدخل فيه من بعض المسائل التي هي ليست منه، وحسب اطلاعي فإن ملامح التجديد عند العلماء المتقدمين قد برزت بصورة واضحة، خاصة وقد صحب ذلك بيان عملي بجهود عدد من الأئمة المتقدمين في هذا المجال في علم أصول الفقه. فانظر على سبيل المثال: كتاب التجديد والمجددون في أصول الفقه لأبي الفضل عبد السلام فقد ضمّن الباب الثاني من كتابه الجهود النقدية والتجديدية في علم أصول الفقه، واستعرض نماذج من العلماء المتقدمين هم: (ابن حزم والجويني والغزالي والعز بن عبد السلام وابن تيمية والشاطبي). وفي كتاب محاولات التجديد في أصول الفقه ودعواته للدكتور هزاع الغامدي نجده قد تناول المحاولات التجديدية لكل من ابن حزم والشاطبي والطوفي. وما في هذين الكتابين وفي غيرهما في هذا الجانب بيان واضح لقدم الدعوة إلى التنقية والتجديد وتسهيل العرض لمباحث أصول الفقه.
كما أن في بعض المؤلفات المتقدمة والمعاصرة خاصة التي قصد بها التسهيل مزيد توضيح حيث قصد مؤلفوها بمؤلفاتهم التسهيل والتبسيط لفهم موضوعات هذا العلم وتخليصها من الغموض الذي وجد في كتب كثير من الأصوليين.

قال أبو الفضل عبد السلام في كتاب “التجديد والمجددون في أصول الفقه”: (وقد كانت جهود المُحْدَثِين متممة لجهود سابقيهم، وجاءت في صورة تطبيقية في خلال مصنفاتهم في الأصول، حيث حرصوا على التيسير والتسهيل سواء في الصياغة أو في الترتيب أو في حذف بعض ما لا ينفع العلم ويخدم غايته، كما ظهرت جهودهم على نحو نظري في مقدمات كتبهم، وإن لم يعرف عن أحد منهم أنه أفرد جهده لاستقصاء هذا الباب بصورة نظرية مفصلة ومستوعبة لتكون نبراساً هادياً للباحثين في علم الأصول. وممن له آثار حميدة في هذا المضمار الإمام الصنعاني والعلامة الشوكاني والعلامة السعدي والشنقيطي وعبد الوهاب خلاف وأبو زهرة).
ونواصل في الحلقة التالية بمشيئة الله تعالى ..

د. عارف الركابي
صحيفة الإنتباهة


‫3 تعليقات

  1. يا د. عارف الركابي، كدي خلينا من الترابي لأنه قصته معروفة، إنت زاااااااااااااااااتك علاقتك شنو بأصول الفقه؟؟؟

  2. الأستاذ الدكتور / عارف الركابي يحمل درجة الدكتوراه في أصول الفقة من جامعة أمدرمان الإسلامية ، وخريج جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في مرحلة البكالوريوس ، وهو أستاذ دكتور ( بروف ) في مجال تخصصه ويعمل حالياً في جامعة أم القرى بمكة المكرمة في كليتي أصول الدين والشريعة، ويكتب في الصحافة ويشارك بفعالية في توعية الناس وإرشادهم ، وهو داعية يعمل بعلمه ، ولا نزكيه على الله فهو موسوعة علمية ومجتهد، ويشرف على رسائل دراسات عليا في مجال أصول الفقه ويناقش طلاب الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ويشرف على أعمال خيرية كثيرة بالسودان من خلال مؤسسات دعوية معروفة جزاه الله خيراً ووفقه لما فيه صلاح الدين والدنيا وأجزل له المثوبة والأجر ، وللعلم لا تربطني به أي صلة إلا صلة هذا الدين العظيم ولكن إنصاف الناس وتقدير أهل العلم حق وواجب.

  3. توضيح : أ.د. عارف الركابي خريج الجامعة الاسلامية في مرحلة البكالوريوس وليس جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لذا أحببت التصحيح