منوعات

الابتهالات الرمضانية .. خلط بين الدين والدنيا


ازدهر الغناء الديني في رمضان، ليضفي عليه زخماً روحانياً، ويمتاز بسمات طريبة، نابعة بدرجة رئيسية من معرفة عميقة بقراءة القرآن. هذا الأمر تغيّر في الآونة الأخيرة، وتحديداً مع محاولة ربط الغناء الديني بتطور الأغنية العربية.

في السنوات الأخيرة، اتجه عدد من أشهر المغنين والمغنيات العرب إلى الغناء الديني، ليظهر في جمل لحنية يطغى عليها البوب الرومانتيكي، مع توظيف كليشيهات لحنية تقليدية قريبة من الأذان، أو شكل الدعاء، وأحياناً يتجلّى في جمل لحنية راقصة.

هناك طابور طويل من المغنين الذين دخلوا مجال الأغنية الدينية؛ عمرو دياب، ومحمد فؤاد، ووائل جسار، وحسين الجسمي، وتامر حسني وآخرون، لكنهم أخفقوا في نقل الطابع الروحاني الذي اتسمت به الأغنية الدينية التقليدية. فلا هي من الناحية اللحنية حافظت على شخصيتها، ولا تمتعت الأصوات المؤدية بإمكانيات تضاهي بها قدرات مشايخ الغناء الديني التي عززت أصواتهم العريضة ملامح الأغنية الدينية بروحانيتها.

منذ فترة طويلة، جارت الأغاني الدينية أساليب أغاني البوب العربية، سواء في التراكيب اللحنية والرتم والتوزيع، أو في توزيعاته الموسيقية الحديثة. اختلف السياق؛ فعبد الحليم قدم الأغنية الدينية ضمن أسلوبه، وترك أثره على أجيال من المطربين، عبر اعتمادهم على الانفعال المبالغ فيه، حدّ الادعاء. وبالنسبة لمشايخ الغناء التقليدي، مثل النقشبندي، نلاحظ الانغماس، والفضاء الصوتي المقتدر بمساحاته ومعرفة أساليب الغناء الشرقي. بينما يعتمد المغنون الحاليون، في تقديم الأغنية الدينية، على نقل الأسلوب العاطفي، مع ادّعاء الخشوع.

الواضح أن توجّه نجوم البوب العربي لتقديم أغان دينية، ازداد منذ سنوات، بينما كان تقديمهم لهذا النوع مناسباتياً بدرجة أساسية، لكن ظهرت أغانٍ بهيئة أدعية، أو مديح للرسول، تذكر فضائل الإيمان وتعبر عن حب الله. وأخفقت غالباً في تجسيد أي طابع روحاني، واقتصرت على أن تكون أغنية بوب دينية فقط.
لعل جمهوراً واسعاً يبحث عن هذا النوع من الغناء، وهو ما جسّده انتشار فنانين اقتصروا على تقديم أغان دينية، مثل ماهر زين، وهو أيضاً لا يذهب بعيداً عن أسلوب البوب. وقبل سنوات، ذاع اسم سامي يوسف، المغني الأذربيجاني، وقدم بلغات عديدة أغاني دينية، معتمداً على أسلوب البوب.

من جهته، قدّم محمد منير ألبوماً كاملاً، أشهر أغانيه هي “مدد يا رسول الله”، وكانت خليطاً من الغناء الصوفي، وأساليب أغنية البوب العربية. صبغ عليها منير ملامحها، لتبرز الإيقاعات، والتركيب اللحني السهل، والرتم السريع للأغنية.
وبالمقارنة مع أسلوب النقشبندي وأساطين الإنشاد الديني، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي، فقدت الأغنية الدينية الحديثة العمق التطريبي والروحاني، بعد أن كانت تعتمد على ضوابط غنائية وفنية تمنحها مناخها الخاص.
يمتاز صوت النقشبندي بتلك المساحات الأخاذة مع رحابة الصوت، وجماله، وهي السمات التي اعتمدتها الكتاتيب والمشيخات الدينية لإخراج قرّاء القرآن ومنشدي القصائد الدينية والتواشيح والمدائح النبوية. وكانت تستهدف الأصوات الجهورة، ذات المساحة العريضة، التي تمتد على أوكتافين، مع وجود النفس الطويل.

لطالما استوعب الغناء الديني الكثير من الألحان الدنيوية، لكنه ظل يحافظ على قوالب صارمة وأساليب تحفظ للغناء الديني مهابته وروحانيته.
في أغنية “مولاي”، جارى بليغ حمدي في لحنه أساليب الغناء الديني، وأتاح للنقشبندي إبراز مساحة صوته العريضة، بتلك الترنيمات الشرقية وزخارفها المحفوفة بمزاج روحاني رحب. أصبحت هذه الأغنية واحدة من الأصوات الرمضانية التي تقدمها قنوات التلفاز على مر السنوات. الواضح أن بليغ كان مُفاجِئاً بأسلوبه اللحني مع النقشبندي، بصورة تخالف ألحانه الذائعة التي قدمها عبر مساره.

نستذكر دائماً، في “مولاي”، لحن المذهب الذي يردّده الكورس، وظل كخلفية لصوت النقشبندي بطبقته الحادة والشجية، وهو يتلاعب بتلوينات طربية وزخرفية، يصعب على كثير من الأصوات الكبيرة أداءها بنفس الإتقان. هذا المزيج بين الابتهال الاعتيادي ولحن المذهب الإيقاعي كتوطئة أو مدخل، ينساب عليه صوت النقشبندي، لينسج اللحن المبتهل إلى الله في قالب الأغنية.

إذا عدنا إلى المفردات اللحنية التي تعتمد عليها موجة الأغاني الدينية الحديثة، فقد اقتصرت على أساليب الغناء الرومانتيكي المغلف بالادّعاء، مع إعادة توظيف ثيمات لحنية دينية شائعة. وإضافة إلى الألحان الضعيفة، اعتمدت على كلمات شديدة الركاكة. لنأخذ أغنية وائل جسار “أمك وأبوك” مثالاً، وهي منذ عنوانها تبدو مُضحكة! تقول: “أمّك وأبوك على طول حبوك، ليه إنت بقيت غصن من الشوك.. ادع لربك يغفر ذنبك وافتح قلبك لما يعاتبوك”.

يعتمد جسّار على أسلوبه الانفعالي نفسه في الأغاني العاطفية، مع لحن طفولي. هذا الشكل يتم اقتباسه للغناء الديني. نعثر، أيضاً، على لحن آخر له في مديح النبي محمد، لحنه أشبه بأغنية اطفال رديئة. هذا المنحى الساذج، يذهب فيه حسين الجسمي أيضاً، ليس فقط في اللحن الباهت لأحد “ابتهالاته” بل في اعتماده على لحن راقص، هو سمة أيضاً شاعت في أغانٍ وطنية. أما عمرو دياب والآخرون، فلم يكونوا أفضل حالاً بمجموعة من الابتهالات الغنائية التي ألصقت غناء البوب الرومانتيكي مع ذلك الادعاء، مفتقرين إلى مساحة الصوت التي ظلت مطلوبة في الغناء الديني كما في قراءة القرآن، وحتى في اختيار الكلمات. كان الأمر أشبه بتأدية أغنية ذات رتم سريع، وبدا الأمر أشبه بأداء واجب ديني، لا أكثر.

اعتمد الإنشاد الديني التقليدي بدرجة أساسية على مساحات صوتية واسعة، تمنح الأغنية سماتها الرحبة في بلوغ المدى الروحاني. أتاح دخول الآلات الموسيقية تطوير الأغنية الدينية، لكنها مع ملاحقتها أنماط الغناء الحديث تجردت عن عمقها الروحاني، حتى أصبحت جزءاً من الركاكة اللحنية السائدة في الموسيقى، الذي تجسده أغاني البوب العربية.

لعل أم كلثوم ورياض السنباطي هما أبرز مثال على تطور الغناء الديني، سواء في القصيدة الفصحى، أو بالعامية. كلاهما، السّت والملحّن، تشكلت جذوره الغنائية واللحنية من تقاليد الغناء الديني، المرتبطة بالقصائد والتواشيح والابتهالات، إضافة إلى قراءة القرآن.

تدين الموسيقى العربية للأساليب الدينية في الغناء، وأيضاً في قراءة القرآن، إذ تأسس وعي كثير من الموسيقيين على ذلك. الحامولي ومحمد عثمان، وحجازي، مروراً بسيد درويش والقصبجي وعبد الوهاب وزكريا أحمد، إلى جانب السنباطي وأم كلثوم وفتحية أحمد؛ كل هؤلاء، ترعرعت أصواتهم ووعيهم اللحني على تعاليم الكتاتيب، سواء في الإنشاد الديني، أو قراءة القرآن المعتمدة على المقامات.
يشكل الغناء الديني أحد ملامح تطور الموسيقى بملامحها الأكثر رقياً، حتى وإن استوعبت ألحان دنيوية، فإنها بحاجة إلى تطوير ثيماتها اللحنية من دون أن يقضي على قيمتها الروحانية كأغنية دينية. نحن نعرف أيضاً أن الكنيسة قديماً ساهمت في تطور الموسيقى الغربية (والعربية كذلك)، عبر تبنيها قواعد التعدد الصوتي. وهي القاعدة التي فرضت للأغنية الدينية شخصية صارمة تتمتع بمهابة لحنية. لكنها في أساليب غناء البوب العربي، تخرج من التطريب الشرقي بمذاهبه الروحانية، وربما بإتاحته التعبير العاطفي، إلى شيء من الميوعة والركاكة في أصوات نجوم البوب العربي.

العربي الجديد