محمد حامد: اولاد القشلاقات
صادفت سهرة بالإذاعة السودانية عن اولاد القشلاقات إستضافت عددا ممن كانت نشأتهم بقشلاقات الجيش وربما الشرطة والسجون ؛ وإن كنت من مسار الحديث ظننت وجريا على أجواء التجييش ان غالب الضيوف ابناء ضباط وجنود عاشوا معا بقشلاق الهجانة بالابيض واخر بالخرطوم لم احدده ؛ كانت اجواء حميمية للغاية والسرد بسيط وشيق مترع بالضحكات والحكي الأخاذ في عوالم صبا وشباب اولئك الضيوف الذين اظن ان بعضهم مذيعيين من ضجيج صدى الاصوات الراكز ؛ كنت انصت واستعيد طيف ايام لي في قشلاق (الشقالوة) ورغم اني عاصرت تلك المرحلة في شندي كطفل حيث بدأ والدي حياته العسكرية بالفرقة الشمالية ؛ لم تنطبع تلك الايام في نفسي وأكاد لا اذكرها وان كنت فيما يبدو عاكس مرآة لوجه ابي ؛ اذ اذكر ذات نهار مطير ان استوقفني (صول) يتبع لاحد كتائب الشمالية ؛ كهل علاه الشيب والحكمة استلني من مجلس يتفرسني مثل راصد فريسة ؛ كان حضرة الصول (حسن) او العم حسن حيث ظل ذاك النداء يسبق رتبته حتى من جانب اللواء مامون نقد قائد المنطقة العسكرية الاستوائية ؛ استوقفني (العم) يدقق في ملامحي حتى ظننته يشمني ! قال معليش يا بني اسمك منو ؟ حرت قلت (محمد) اضاف محمد منو ؟ رددت مكملا اسمي ابحث عن ديباجة منطوقة ، صمت لبرهة ثم شدني اليه لا حول الله ؛ صافحني مثل رجل يجدد وضوء نافلة قال ان جاركم في (الشقالوة) ثم اخذ يعدد لي حكايات امي وقصص والدي ؛ قال لي كأنك هو غير انك اطول ؛ فصرت كلما اعبر بموقعه اتخير مجلسا ؛ استمع لعوالم حكي كررتها الاذاعة امس فكأنما الكتاب واحد ؛ عشت قطعا من عمري بقشلاقات ؛ واعرف حرارة الانفاس المتقاربة فيها بالاصرة المنزوعة من غل الجهات ؛ الحوائط الموشاة بالجير المهمل ؛ بعض ابواب الخشب ؛ رائحة نفاذة خليط من ضوع حناء و(نيم) وتصاعد ابخرة إدام يطبخ من جارتنا لعزيز يجلبه الترحيل حينما يكثر عبد الرحمن عبد الرسول من تكرار اسمه كصدى في عالم الرياضة التي مع خواتيمها يرن ذاك المارش مبشرا باخبار الثالثة عصرا حيث يهب الناس لموائد الغداء ؛ موائد بسيطة لكنها غنية بالتقوى والزاد الحلال ؛ اذكر وحدة نسيج (الكاكي) المتشابه على اسلاك الغسيل ؛ تمازج الثقافات ؛ بساطة السر والنجوى وظلال الجهر الفصيح في (نيالا) عرفت لغة الاوصاف الجديدة فالقيادة هي (الطابية) وكنت قد كبرت فادرك تفسيرات (إستعداد) و(مأمورية) وإنذار لاحقا صادقت بحكم الدراسة والعمل والامل اولاد قشلاقات البوليس بالخرطوم غرب ؛ هؤلاء صنف من الناس مهجن بين مدنية قلب الخرطوم ؛ وشفتنة ابناء الحارات ؛ ومواهب المغنيين ؛ ليس غريبا ان يكون فيهم رجل مثل (الموصلي) الموسيقار مثلما برز بينهم ضباط وقادة ؛ شربوا البوليسية وتكرعوا حسن التصرف ونباهة الصعود ؛ لي صلة كذلك بقشلاق (بانت) الذي كلما اعبر به احن لقعر شجرة نخيل لا تزال قائمة هناك ؛ وساحة مصنوعة ارضيتها من رمل محمر وحصى اظنه جلب من (فتاشة) لطالما شهدت سرداق عرس وخيمة عزاء ؛ ولطالما ما ابنت شهيد او زفت مغادر للكلية الحربية او الجنوب ! ورغم ان المكان قد تحول الان لمبان تخص جامعة كرري لكني لا ازال كلما اعبر اتحسس اثر السلك الشائك واستعيد منافذ في الجدار المحيط بالمكان الذي لا تزال بعض احجاره الدارسة تتشبث بالمكان كأنها تقول هنا عشت وهنا ساموت ولكن لن أنزع ! او هكذا اظنه يقول.
بقلم
محمد حامد جمعة