لماذا لا يضرب ترامب إيران؟
بعد أن أسقطت إيران الطائرة الأميركية بدون طيار، سادت التوقعات بأن ترد الولايات المتحدة على ذلك، وربما بضربة محدودة، ولكن مؤلمة، ضد الدفاع الجوي الإيراني، وربما البحرية الإيرانية أيضا. فعلا تم إقرار ذلك، لكن الرئيس دونالد ترامب تراجع عن القرار قبل عشر دقائق من شن الهجمات، والقصة باتت معروفة. ما زالت التساؤلات توجه بشأن احتمالية نشوب حرب، فهل سيضرب ترامب إيران؟
أثبت الرئيس الأميركي، مرة أخرى، أنه يجعجع أكثر مما يفعل، فقد كان يعيب على سلفه باراك أوباما تردّده في ملفات مختلفة، إلا أن ترامب يظهر فعليا تردّدا أكبر من ذلك، خصوصاً في ما يتعلق بإيران. ما زالت الأمور متوترة في الخليج، وما زالت احتمالات تصاعدها عسكريا واردة في أي لحظة، لكن من المستبعد أن تندلع حرب شاملة بين البلدين. والإشارة هنا إلى أن التوتر الحالي بدأه ترامب بتصعيده العقوبات على إيران وإحكامه لها، ثم حديث إدارته عن تهديد إيراني لأميركا ومصالحها. ولكن لماذا يتردد ترامب، وقد تردد قبله رؤساء أميركيون آخرون في ضرب إيران؟
السبب الأول والمباشر أن ترامب لا يريد خوض الحروب، وخصوصاً في الشرق الأوسط، إذ طالما قال إن أميركا أنفقت أموالا هائلة هناك على الحروب، ولم تجن شيئا. ولكنه في الوقت نفسه يريد مواصلة الضغط الاقتصادي على إيران. ولذلك يبدو أن قرار التصعيد إلى الحرب حاليا هو بيد إيران أكثر من ترامب، فإيران هي التي تتعرّض للضغط الاقتصادي الهائل، وهي التي تحتاج للرد عليه، كلما كبر، وخصوصاً إذا وصل إلى مرحلة تهدّد نظامها ووجوده. يعرف ترامب جيداً أن الحروب في الخليج ليست لها نتائج مضمونة على مصير الرؤساء الأميركيين، ربحوا فيها أو خسروا، فقد تعرض الرئيس جيمي كارتر لضربة سياسية قاضية، حينما فشلت العملية التي أمر بها لتحرير الرهائن الأميركيين في طهران قبل أربعين عاما، وقد أدى ذلك إلى خسارته الانتخابات أمام رونالد ريغان. أما الرئيس جورج بوش الأب فقد احتفل بعد حرب الخليج ضد العراق عام 1991، لا بل إنه نظم استعراضا عسكريا بعد الحرب للاحتفال، وهو أمر نادر، إذ ليس من التقاليد الأميركية إقامة استعراضات عسكرية في الشوارع. ولكن بوش خسر الانتخابات بعد ذلك، بسبب الوضع الاقتصادي، ليصعد بيل كلينتون إلى الرئاسة.
الوضع الاقتصادي، إذاً، مهم جداً، بل هو العامل الحاسم في حظوظ ترامب للفوز بفترة رئاسية ثانية، وها هو الموسم الانتخابي يبدأ مبكرا في أميركا مع تزاحم الديمقراطيين للتنافس لاختيار مرشحٍ ينافس ترامب العام المقبل، سيكون على الأرجح جو بايدن نائب أوباما السابق. يؤكد ترامب كل يوم تقريبا على ازدهار الاقتصاد، ويعتبره منجزا يتباهى به. ولذلك لن يخاطر بأن يخوض حربا قد تتحوّل إلى حرب استنزاف اقتصادي، مثل حربي العراق وأفغانستان اللتين طالما انتقدهما، وخصوصا حرب العراق.
عامل آخر مهم جدا في علاقة أميركا وإيران وقضية الحرب والسلم بينهما، هو رؤية الولايات المتحدة للشعب الإيراني، ومعرفتها
“الولايات المتحدة تعرف جيداً أن شرائح واسعة من الإيرانيين لا يكرهونها، بل يتوقون إلى علاقات قوية معها”
، على الرغم من الشعارات التي يرفعها النظام الذي يحكمهم. وقد شهدت جلسة الاستماع أخيرا في الكونغرس لمسؤول ملف إيران في الخارجية الأميركية، برايان هوك، تذكيرا بتلك الرؤية الأميركية للشعب الإيراني، أو لقطاع كبير منه، قال ذلك هوك نفسه، وأعضاء في الكونغرس أيضاً.
يبقى عنصر آخر لا يقل أهمية عن كل ما سبق في الرؤية الأميركية إلى إيران، فهذا البلد في المخيال الأميركي هو دولة، وهو أمة عريقة، وأي تحليل لخطاب أي مسؤول أميركي، حتى المتشددين منهم، تجاه إيران، غالبا ما يظهر تكرار إشارات واضحة عن تاريخ إيران وحضارتها وتأثيرها. لا بل إن السياسة الأميركية، استناداً منها إلى التسليم بالوحدة السياسية التاريخية المفترضة لإيران، لا تركز على استغلال وتوظيف واقع الأقليات في إيران ومشكلاتها السياسية، كما فعلت وتفعل مع دول أخرى. هذا الاعتقاد بالعمق التاريخي لإيران مهم في تفكير صانع القرار الأميركي، عندما يأتي الأمر إلى قرار شن الحرب من عدمه.
تبقى الأمور متوترة في الخليج، والاحتمالات مفتوحة، لكن احتمال الحرب الشاملة ضعيفٌ جدا. لا أميركا تريده ولا إيران. يستمر النزال بين البلدين بلا ضربة قاضية، لا بل وبلا ضربة حقيقية على الوجه حاليا. تبقى الضربات الجانبية مثل إسقاط الإيرانيين الطائرة الأميركية من غير طيار، وتجنب إسقاط طائرة أخرى فيها جنود أميركيون، وقرار ترامب بالرد ثم تراجعه، رغبة منه بعدم قتل العشرات، بحسب ادعائه، ليعود ويفرض عقوباتٍ إضافية في ضربة جانبية أخرى. يراهن كل من الطرفين على استنزاف الآخر وإرهاقه، فيما يتابع العالم هذا النزال، وتأثيره على السلم في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
رافد جبوري _ العربي الجديد