رسائل السبسي إلى السودان والجزائر
رئيس دولة يخسر قضيةً رفعها ضد مدون كتب منشوراتٍ اعتبرها مسيئة له. هذا الخبر العجائبي لم يأتِنا من الغرب، بل شهدناه واقعاً في تونس مطلع العام الجاري. كان الرئيس التونسي الراحل، الباجي السبسي، قد رفع قضية عام 2014 ضد المدوّن عماد دغيج، قال فيها إنه استغل حالة حرية التعبير بعد الثورة للتحريض ضده. وكان دغيج قد دأب على وصف السبسي بلقب “الشيخ تحيفة”، وأطلق تصريحاتٍ نارية كقوله إن “الإرهاب الحقيقي هو ما تمارسه قيادات نداء تونس”، “الكيان الصهيوني أقل خطورة من الكيان التجمعي”.
صدر حكم الدرجة الأولى بسجن عماد ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ، لكنه استأنف هذا الحكم المخفّف، ليصدر الحكم النهائي بالبراءة. يلخص هذا المشهد مسيرة السبسي الجديرة بالاحترام والتقدير. لم يكن الرجل أبداً ثورياً أو ذا تاريخ في النضال الديمقراطي، بل كان ممثلاً للنظام القديم، ولم يدعِ يوماً غير ذلك، لكنه اختار المسار الإصلاحي، وظلت أدواته التصريحات والإعلام والانتخابات والتفاوض، لا القمع والتحريض وسحق القوانين.
قبل انتخابه، كان قد صرح بأنه سيعمل على حل هيئة الحقيقة والكرامة، لكونها “تؤسس لمبدأ الانتقام والتشفّي”، ولكن القانون لم يسمح له، فاكتفى بمقاطعته الجلسة التاريخية التي بدأت بها الهيئة الاستماع للشهادات العلنية، وكذلك حاول تمرير قانون المصالحات الاقتصادية مع رجال الأعمال المتهمين بالفساد، ثم اضطر لسحبه بعد ردة فعل قوية. في هذه المحطات وغيرها، لم يلجأ إلى الاستقواء بالجيش أو الأجهزة الأمنية التي ما زال للتجمعيين (حزب بن علي، التجمع الدستوري الديمقراطي) النفوذ الأكبر فيها، أو دعوة أنصاره إلى النزول إلى الشارع، كما لم يستجب لمخططات دول خارجية أرادت دعمه لتكرار النموذج المصري.
كانت رؤية السبسي هي الحفاظ على المسار السياسي الذي هو في جوهره محصلة تفاوض وحلول وسط بين النظام القديم وقوى الثورة. هذا هو المتغيّر الرئيسي المفقود في تجارب دول الربيع العربي، سواء بموجته الأولى، أو حالياً في الجزائر بشكل رئيسي، وفي السودان جزئيا مع تعثر مسار الاتفاق السياسي، حيث يغيب “شريك السلام” في الطرفين، فتغرق قوى الثورة في التطهرية والمزايدات، بينما تتشبث قوى النظام القديم بعدم التراجع عن مواقعها ولو شبراً واحداً.
ومن الإنصاف القول إن التجربة التونسية ساهمت فيها أيضاً عوامل تاريخية مؤسّسة، فدولة الاستقلال التونسية أسّسها مدنيون لا عسكريون. كان بورقيبة محامياً، وكذلك السبسي نفسه تخرج من كلية الحقوق، ولم يمنعه كونه مدنياً من تولي حقيبتي الداخلية عام 1965 والدفاع عام 1969، وهذا يعد خيالاً في دول عربية أخرى. كما أن الدولة التونسية تاريخياً، وعلى الرغم من قمعيتها الشديدة، سمحت ببقاء كيانات مدنية منظمة بالغة الأهمية، كالاتحاد العام للشغل الذي كان شريكاً لاحقاً بوساطة “الترويكا” للوصول إلى اتفاق سياسي، ما أسفر عن تكريم الوسطاء بجائزة نوبل للسلام. كما استفادت تونس من انخفاض عدد سكانها، ما جعل قرارات مجانية التعليم وإجباريته في عهد بورقيبة تؤتي ثمارها سريعاً، فضلاً عن ابتعادها الجغرافي عن إسرائيل.
لا تكفي هذه العوامل وحدها لتفسير التجربة المختلفة، من دون النظر لنموذجيّ الشيخين الباجي السبسي وراشد الغنوشي (زعيم حركة النهضة)، وللمسؤولية التي تحلى بها الوسط السياسي التونسي، منذ لحظة التوافق على مسار انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 2011، ليستغرق نحو عامين ونصف العام لكتابة الدستور التوافقي بعد تفاوض طويل، شمل الاحتفاظ بالمادة الأولى التي نصّت على أن تونس “الإسلام دينها والعربية لغتها” من دون تعديل. المقارنة تعيسة مع ما حدث في مصر من لجنة غير توافقية، ومن تفجير المجال السياسي بعد الخلاف على إضافة “المادة المفسّرة لمبادئ الشريعة” وأشباهها.
سعي كل طرف إلى الاستقواء بالجيش، سعياً للحصول على الكل أو لا شيء، فحصل الجميع على لا شيء، والجيش على كل شيء. ولعل مصائر البلاد، ورد فعل الشعب التونسي نحو وفاة السبسي، تمنح الثوار والأنظمة في السودان والجزائر دروساً لتجاوز المخاضات العسيرة بفضائل التفاوض، والحلول الوسط، والتنازلات المتبادلة.
العربي الجديد