عالمية

بعد جدل.. حقيقة موافقة واشنطن على غزو تركيا لسوريا

ساعات عصيبة تلك التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، لا سيما سوريا التي تتعرض لغزو تركي شرس ينافي ويجافي كافة القوانين الدولية، لاسيما وأنه يعتدي على تراب وطني لدولة مستقلة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة.

فالحديث عن الغزو التركي لسوريا ليس جديدا، فهي تحتل لواء الإسكندرونة منذ عقود طويلة، ولهذا يطلق عليه السوريين اسم اللواء السليب، واليوم يطمع الأغا العثماني بتغيير وجه سوريا جغرافيا وتاريخيا من خلال احتلال شريط حدودي يتجاوز عمقه 30 ميلا عوضا، عن 3 اميال كان متفق عليها مع الشريك الأميركي، كي تكون حزام أمان من هجمات الأكراد، كما تدعي أنقرة.

الأسئلة بين يدي المشهد كثيرة ومتداعية، وفي المقدمة منها هل ما جرى كان بتنسيق أميركي أم من غير تشاور مع العم سام؟

الجواب واضح جدا للعيان، تركيا لم يكن لها أن تقدم على فعلتها هذه من غير تنسيق بدرجة أو بأخرى مع واشنطن، إذ مهد لها الرئيس ترامب الطريق من خلال إعلانه السريع ومن غير التشاور مع بقية أركان إدارته أو الكونغرس إثر الانسحاب العسكري من سوريا.

فالولايات المتحدة لم تتعلم من التاريخ، وترامب لم يتعلم من دروس سابقيه، فقد كان الانسحاب الأميركي من فيتنام في أوائل سبعينات القرن المنصرم مذلا جدا.

ورأى العالم صور الجنود الأميركيين يتسابقون فوق سطح السفارة الأميركية في سايغون للفرار من المصير المحتوم، وبالقدر نفسه لم يقرا سطور انسحاب سلفه أوباما من العراق، الأمر الذي مكن لإيران من جهة ونشأ في ظله تنظيم داعش من جهة أخرى.

ويحاجج وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بأن واشنطن لم تمنح تركيا الضوء الأخضر اللازم لغزو سوريا واحتلال أراضيها، وهو أمر من الناحية الرسمية حقيقي.

غير أنه من الناحية العملية يعتبر الانسحاب الأميركي من الأراضي الواقعة شمال شرقي سوريا، ضوء ضمنيا لأردوغان للقيام بما قام به، بل أكثر من ذلك نرى بومبيو محاولا تبرير ما فعلته تركيا فخلال لقاءه مع شبكة “بي بي إس”، قال إن تركيا لديها مخاوف أمنية مشروعة.

فهل يعني ما تقدم أن الأميركيين يبررون بشكل أو بآخر، ويباركون بطريقة أو غيرها ما يفعله الأتراك في سوريا؟

ويذهب بومبيو إلى أن الرئيس ترامب اتخذ قراره بإبعاد الجنود الأميركيين حتى لا يطالهم الأذى، وكأنهم جنود جمهورية موز، يمكن أن تصيبهم شظايا الاعتداء التركي، وليسوا جنود الولايات المتحدة القوة الأولى حول العالم في عدتها وعتادها وعديد جنودها، الأمر الذي يعلمه أردوغان ولا يجروا على الاقتراب منه.

ماذا في الأمر إذن، وهل نحن أمام ما يمكن أن نسميه توافقات دولية برعاية الأمم المتحدة تقترب من حد المؤامرة على سوريا اليوم وبقية العرب تاليا؟

يستوجب الجواب بداية القول إن ما جرى من الجانب الأميركي هو قرار رئاسي منفرد، لا يجد دعما في داخل غالبية المؤسسات الأميركية، لا سيما الكونغرس بجمهورييه وديمقراطييه، والبنتاغون، فالجميع يعلم أن مثل هذا الغزو يحيق الضرر بالسياسات والتحالفات الأميركية في الحال والاستقبال.

كما أن قرار ترامب سيدمر وربما دمر بالفعل المصداقية الأميركية تجاه الحلفاء الخارجيين بنوع خاص، فقد كانت قوات سوريا الديمقراطية خير عون وسند لقوات التحالف الدولي في صراعها مع التنظيم الدموي داعش، وقد أبدى منتسبوه لا سيما من قوات حماية الشعب الكردية بسالة وشجاعة واضحين جدا في المعارك الضارية التي جرت هناك.

وهنا السؤال، من سيثق لاحقا في إقامة تحالفات سياسية جديدة مع العم سام، وها هو يراه يتخلى عن حلفاءه، الذين قدموا له يد العون طويلة جدا من أجل القضاء على جماعة تمثل الطاعون الأسود في القرن الحادي والعشرين؟

ورغم حديث ترامب عن الدور التركي في القضاء على داعش، إلا أن المرء يمكنه بسهولة ملاحظة أن الفعل الأول لقوات تركيا هو إطلاق قذائفها على أبواب سجون داعش هناك، ما يعني إطلاق سراح نحو 12 ألف مقاتل داعشي، منهم 4 آلاف أجنبي، ناهيك عن إتاحة الفرصة لـ18 ألف مقاتل داعشي آخرين مختبئين في المنطقة، ما يفيد بأن المنطقة مقبلة ومن جديد على حلقة أخرى من حلقات الإرهاب الكارثي بمباركة أميركية من غير مواراة أو مداراة.

ويقول البعض إن أحد أهداف السماح الأمريكي ولو ضمنيا لتركيا بغزو شمال سوريا، هو وضع حد للتدخل الإيراني هناك، غير أنه تحليل ضعيف، إذ سيزيد من تمزق سوريا ويستدعي المزيد من التدخلات الأجنبية، الأمر الذي سيعمق المأساة السورية في الحال والاستقبال بشكل غير مسبوق، ومن دون أدنى أمل في تقديم حلول جذرية تصالحية بالمرة.

ويلفت النظر في المشهد السوري الآن الموقف الروسي، والذي لا يتجاوز التصريحات الدبلوماسية بألوانها المختلفة، وجميعها في نهاية المشهد لا ترد غزوا تركيا، ولا تتصدى للاعتداء على استقلال دولة حليفة لها، ما يفتح الباب واسعا للقول إن هناك ولا شك تنسيقا أميركيا روسيا عال المستوى، لا تتضح أبعاده الآن، ولكنها ستتكشف لاحقا، إذ ليس من اليسير أن تغض موسكو الطرف عما يجري هناك من دون أن تكون حسابات الربح تصب في مصلحتها، وهي تاريخيا لا تأمن للأتراك وتدرك أعماق رؤاهم التاريخية.

كما يتساءل البعض. ما مصلحة الرئيس ترامب في مثل هذا الانسحاب من سوريا وتعريض علاقات أميركا الخارجية لانتقادات عريضة؟، وأول المعترضين الأصدقاء على الجانب الآخر للأطلسي أي الأوربيين، الذي يكنون مشاعر رفض ومقت للأغا العثماني العدو التاريخي، الذي لم تفلح مداهناته ولم تنطلي على الدول الأوربية لقبوله عضوا في الاتحاد الأوربي.

فهناك أكثر من تفسير يوضح لنا أننا أمام مشهد براغماتي أميركي بامتياز، الأول يتمثل في محاولة إنقاذ تركيا من بين أنياب الأسد الروسي، حتى لو جاء ذلك على حساب الأكراد، والتضحية بهم على المذبح التركي، ومن تبعات هذا التخلص من الأسر التركي لدى الروس وقف وتعطيل صفقة صواريخ “إس 400″، التي يعني وجودها تهديدا للمصالح الأمريكية.

فيما الثاني عبارة عن محاولة ترامبية لتعبئة الرأي العام الأميركي الداخلي خلف الرئيس، وتبيان أنه كان صادق في وعوده بعدم إدخال الأميركيين في حروب جديدة، عطفا على أنه يخفف من ضغوط قضية عزله.

ويدفع السوريون الثمن غاليا، نتيجة لغياب النظام العربي، كما قال وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش. فهل ما يجري ناقوس الصحيان لأمة غفلت كثيرا عن صالحها ومصالحها؟

سكاي نيوز