حسين خوجلي: اللهم أجعلها رؤيا، لا أضغاث أحلام!
حتى الشمس في ذلك الصباح كانت مترفقة وصديقة. كان في الهواء دعاش وفي الفضاء صفاء وفي الأنفس فرح فياض وانتعاش. كان عرسا حقيقيا من أعراس السودان، تآلفت المئات من الأسر السودانية الطيبة، وملأ السمر والسمار الأفق، والأطفال تناثروا كالأزاهير البرية، والمئات من الأصوات الندية تردد عزة الخليل في تناغم وسيم أقرب إلى الابتهال وأماديح التصوف .. مائة باص أصيل المنشأ- بلا دين ولا تهريب – سدت مدخل الساحة الخضراء وقد لفها شعار بقماش أبيض طويل التيلة، وقد برز ندائه الوطني اللماح مخاطباً بلادنا الحبيبة :
اولاد امك واولاد ابوك ..
احفاد فرح ود تكتوك ..
حلال المشبوك
وجلالة مهدوية مباشرة :
تشهد لنا المهدية..
والحرب العالمية
واحدنا بكتل مية
وهتاف بت المكاوي المعتق :
طبل العز ضرب هاوينو في البرزة ..
وغير ضرب أم كُبان أنا ما بشوف عزة ..
إن طال الوبر بنواسيهو بالجزة..
وإن ما عم نيل ما فرخت وزة
وصدح كورال بنات أمدرمان الثانوية برائعة الحلنقي وعركي :
اسمعوا مني الوصية ..
نحن لازم نبني نعمل..
والعمل في حد ذاتو للبيشعر مسئولية
وكورال بنات الأحفاد كان حاضرا:
لن يصيب المجدَ كفٌ واحد ..
نبلغ المجد إذا ضُمت صفوف..
سوف يحدونا إخاء خالد …
وتقوينا على الدرب الألوف
ويبتدر أحد قادة الشباب الميامين مخاطباً القافلة المكونة من خمسة آلاف شاب من الزراعيين والبيطريين لاستلام مشروع السلطان الشهيد تاج الدين الزراعي ( امير دارفور الذي كسر صلف الفرنسيين بوطنيته ودينه)، المشروع المقام بسد أعالي عطبرة وسيتيت، حيث مُلِّك كل شاب عشرة أفدنة لمنتجات التصدير، وأقيمت قرية منتجة للسكن والخدمات، وبها مركز تدريب وبحوث بيطرية وزراعية وخبرات فنية من الداخل والخارج. كادر فني باكستاني ومصري وبرازيلي وخبراء سودانيين لخلق مناخ علمي من أجل محصولات منافسة. وقد تم إنشاء مركز صحي للعاملين، ومسجد ونادي رياضي ومركز ثقافي يساهم في تنمية الحياة الاجتماعية والثقافية بالمنطقة. وابتدر ممثل الشباب حديثه بالآية (ولوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وأضاف: إخوتي نحن ذاهبون للريف ايماناً بالله وخدمة للأنسانية وتنمية لبلادنا وسوف تكون حياتنا كلها في هذه الارض الطيبة، تراتيل في مقام الصدق. واعلموا أن هذه القافلة هي الأولى استبشارا بالشرق وسوف تنطلق أخرى صوب الوسط، وثالثة صوب كردفان الغراء، ورابعة صوب دارفور الحرة، وخامسة صوب الشمال القادم، وسادسة صوب الجنوب الجديد صاحب النهر الابيض والقلب الابيض واللبن غير المسكوب، وخاتمتها صوب سنار الحياة والنيل الازرق الفداء ووتوالى البشريات.
تحدث بعده وزير الزراعة الشاب قائلا: لقد توجهنا صوب أرضنا معتمدين على سواعد شبابنا بعد أن كفرنا بالاغاثات والصناديق والديون وأعلينا ورفضنا اليد السفلى بل ودعناها الى الابد. عانقت الأسر ابنائها الذين تركوا حواري الخرطوم المحاصرة بالفقر والبطالة وانسداد الأفق ورأى الجميع دموع الفرح وصيحات التطلع وانطلقت قافلة المجد والتنمية صوب الريف السعيد، وانبعثت زغاريد الزهو والبشارة، وزحمت الطبول والبيارق الآفاق، وأنشدت مليحة الحي العفيفة ( الرافعة راس أخوانها) :
نادوا أخواني الشادّين قفايا ..
وبطرّقو لساني
ومن عمق عطر الأهازيح غادرت قافلة البصات المباركة الخرطوم الى غير رجعة صوب السنابل لا القنابل و الحرية لا العبودية و الغلال لا القتال، بشباب سوف يحيون في سبيل الله ولكنهم أيضا غير هيّابين للموت في سبيله
شباب لم تحطمه الليالي ..
ولم يسلِم الى الخصم العرينا ..
ولم تشهدهم الساحات يوما ..
وقد ملئوا نواديهم مجونا..
وما عرفوا التهتك في بنات..
ولا عرفوا التخنث في بنينا..
وحين امتزجت أصوات التكبير مع الهتاف وتأوهات الوداع الواعدة وصارت بوحاً واحداً، أنهضني آذان الفجر فوثبت في طمأنينة داعياً (اللهم اجعلها رؤيا ، لا أضغاث أحلام)
حسين خوجلي
بركاوي عديل.من النوع المخيش.
إنه ليس وقت الأحلام
بل هو وقت الكوابيس