أسعار الخبز في السودان .. معادلة مختلّة
أعلنت الحكومة السودانية أنها غير قادرة على الاستمرار في دعم السلع وقالت على لسان وكيل وزارة المالية إن دعم الخبز لن يستمر طويلًا وستتم مراجعة أسعاره لاحقًا. ولم تزل معادلة أسعار الخبز مختلة حتى بعد التغيير الكبير الذي شهدته الساحة السياسية في السودان بذهاب حكومة مغضوب عليها جماهيريًّا ومقدم حكومة تحظى بسند شعبي كبير.
الخلل الأساسي يكمن في كون الحكومة تحاول التوفيق بين حق مشروع للمواطنين، في الحصول على سلعة أساسية بسعر معقول، وبين جشع رأسمالية طفيلية تسعى للتربح من قوت المواطنين دون رادع. الخلل الثاني يتجلى في محاولة الحكومة التوفيق بين التزاماتها تجاه المواطنين، بتحسين الاقتصاد وتخليصهم من التركة الثقيلة التي خلفها النظام البائد، دون إضافة أعباء جديدة على كاهلهم الذي ينوء بحمل مؤذ، وبين مطلوبات المؤسسات الدولية ذات الفاتورة القاسية. والأزمة الآن في ذروتها، حيث تتكاثر صفوف الناس أمام المخابز، وتدفع شركات الدقيق وأصحاب المخابز نحو التصعيد لتحقيق مطلبها بزيادة الأسعار، وتتوارى الحكومة خلف كليشيهات جاهزة من شاكلة دعوتها لتشديد الرقابة وتكاتف الجهود لضبط توزيع الدقيق.
ينظر المواطنون لأي زيادة في أسعار الخبز أنها مقدمة لزيادات متتالية ستؤدي لانفلات كامل في الأسعار، وستسرع من وتيرة الإنهيار الاقتصادي ومن التضخم وتآكل قيمة الجنيه السوداني. أما اتحاد المخابز الذي طالب برفع سعر قطعة الخبز من جنيه واحد إلى جنيه ونصف، فيلوح بإحتمال توقف بعض الأفران عن العمل بعد أسبوع من الآن حال عدم معالجة إشكالاتها ما ينذر بندرة فادحة في السلعة الأساسية.
وزير الصناعة والتجارة مدني عباس مدني، أكد استمرار الدولة في دعم دقيق الخبز لتخفيف العبء على المواطن، ودعا إلى تنفيذ قانون حماية المستهلك، وأعلن الوزير مدني عن معالجات آنية وأخرى إستراتيجية للخروج من ظاهرة شح الخبز. بينما قال وكيل وزارة المالية ميرغني حسن أن الحكومة غير قادرة على الاستمرار في دعم السلع وأكد بقاء دعم الخبز مع مراجعته لاحقًا، ما يعني أن الدعم مرفوع وربما بأسرع مما يتوقع وزير الصناعة والتجارة.
ويعتبر البروفيسور عصام بوب أن رفع الدعم من السلع الأساسية يعد قتلًا بطيئًا للفئة الغالبة من المجتمع السكاني للبلاد، عبر إضعاف قدرته على الاستهلاك وحرمانه من الضروريات، وقتل لقيمة المدخرات الموجودة، والاعتماد الكلي على تنفيذ الحكومة دون وعي أو إدراك لتوصيات صندوق النقد والبنك الدوليين، التي تدعو إلى جملة أساسيات على رأسها رفع الدعم عن السلع الأساسية. ويشدد عصام بوب على أن مؤسسات النقد أو التمويل الأجنبي لا يهمها كثيرًا موت أو حياة الشعوب، بدليل تمريرها لوصفة واحدة تطبق بحذافيرها “زيادة الضرائب- إلغاء دعم السلع الأساسية- معادلة أسعار السلع بالأسعار العالمية”.
لا يخفى على أحد أن زيادة أسعار الخبز من شأنها التأثير على أسعار كافة السلع والخدمات، من واقع زيادة تكلفة الإنتاج التي تقود إلى ارتفاع الأسعار، والتي بدورها تؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم الذي يتسبب في انخفاض القوة الشرائية للعملة الوطنية، مقابل العملات الأخرى الأمر الذي يعني زيادة سعر صرف الدولار في مقابل الجنيه السوداني.
ما يظهر حتى الآن أن الحكومة الانتقالية تتجه نحو الحلول السهلة المتبعة منذ ثلاثة عقود. تلك الحلول التي لا تتورع عن حلب جيب المواطن وإرهاقه بالجبايات والإتاوات، وللمفارقة فإن الحكومة السابقة أعلنت تحرير الدقيق وفكت احتكار استيراده قبل أربع سنوات، حين أصدرت قرارًا في آب/أغسطس 2015 بفك احتكار استيراد سلعتي الدقيق والقمح لشركات المطاحن الكبرى الثلاثة للغلال (سيقا، ويتا، وسين) وفتح باب الاستيراد لبقية شركات المطاحن عبر العطاءات.
قال وزير المالية وقتها بدر الدين محمود عباس أن الدولة تفتح استيراد القمح بالتزامن من انخفاض أسعاره عالميًا، واعتمد عباس وقتها على ذات الحجة التي تشهرها الحكومة الحالية، وهي محاولة تفادي تسريب دقيق الخبز لأغراض أخرى، وتشجيعًا للإنتاج الزراعي المحلي وتوطين زراعة وصناعة القمح.
يبدو أننا ما زلنا بعيدين من إنجاز تغيير حقيقي فيما يلي استقرار وانسياب سلعة أساسية كالخبز، فكل المحاولات لتحقيق هذا الهدف عرضة لصراع صفري، بين الحكومة والمستوردين وأصحاب المخابز ومهندسي الفساد، في ظل غياب الإنتاج المحلي وضمور مساهمته بأقل من 12% إلى 17% من احتياجات المواطنين البالغة اثنين مليون طن في العام.
التقي محمد عثمان
العربي الجديد