قصة شهيد .. الشهيد محمد عيسى دودو .. الذي كان يقود درداقة بالسوق من أجل مساعدة الأسرة و قصة رؤيته جوار الكعبة
قصة شهيد … الشهيد محمد عيسى دودو الشهيد صاحب الدرداقة
الشهيد كان يساهم في مصروفات المنزل، وأن الناس كانوا يستنكرون عمله لأنه لا زال طفلاً. وأشارت ليماء إلى أنه ظل يقود درداقة بالسوق من أجل مساعدة الأسرة، وقالت لمياء أنه كان يتطلع للعمل والذهاب إلى الخارج وكان يسخر منها كثيراً بسبب دراستها للكيمياء ويمازحها (انتي قريتي عملتي شنو؟).
لم تكن أشرعتهم مثقوبة تتناسل الرياح من بين نسيجها المُحكم، كانت مراكبهم تمخر عُباب الثورة توقاً إلى ضفافها الخضراء، أشعلوا القناديل بدمائهم ليبلغ الناس عناقيد التغيير البعيد، تجاسروا فوق هضاب المستحيل، ليكون الممكن مُمكنناً. إنهم عُصبة من الأخيار الذين اختارتهم السماء بعناية فائقة، ليكونوا قرباناً لرغبة شعب قرر الخروج من أزمنة القمع ومصادرة الأحلام. (الجريدة) وفي إطار انفعالها وتفاعلها مع اللحظات الانسانية النبيلة والتي شكلت عنواناً مُضيئاً في تاريخ تلك الثورة السودانية المجيدة، تدشن على صفحاتها رسماً وتوثيقاً وعرفاناً لسيرة الشهداء عبر سلسلة راتبة باسم “قصة شهيد” ، لتبقى تلك العظمة البطولية النادرة والتي أوقدها شهداء الثورة، نبراساً يحيل ظلام الماضي إلى نوراً تتوهج فيه أركان الحاضر والمستقبل للأمة السودانية.
الشهيد محمد عيسى دودو
(الشبلي) الذي ضمد جراح أمه وهي بجوار الكعبة
لم يكن من الصعب العثور على منزل الشهيد محمد عيسى دودو، بالحاج يوسف أو “الشبلي” مثلما يحلو للثوار بالحاج يوسف الردمية. استشهد “الشبلي” أثناء دفاع مستميت عن تروس ساحات الاعتصام بالقيادة العامة. صار الشبلي الثائر علماً يعرفه كل الناس، و حتى الصبية الذين يركلون الكرة في أزقة الحي يعرفونه جيداً، منزله يجاور المساجد ونداءتها التي تفتقده. ثمة حنين يعلو مع عبق المكان، وتشهد به “الإطارات” المغروسة أسفل المنزل وكأنها ترسل له شارات النصر وتقول له لقد انتصرنا وتحققت المدنية.
من داخل المنزل
استقبلتنا شقيقته الكبرى لمياء محمد عيسى، وسارعت بإدخالنا إلى المنزل لمجرد تعريفنا بهويتنا من (الجريدة) ، وإلتقينا والده عيسى دودو، ووجدنا حالته الصحية متدهورة بفعل الضغط والسكري، و كان يجول ببصره في فناء المنزل وكأنه يبحث عن ولده الشهيد بين أركان المنزل الذي يدل على طيب وكرم وبشاشة أسرة الشهيد محمد عيسى. تحدث إلينا والد الشهيد الشبلي بترحاب وود ونبرات ممزوجة بالحزن والأسى، وقال إنه يفتقد ابنه الشهيد كثيراً، وأن علاقته مع ابنه كانت جيدة دون سائر ابنائه ، وقال إن صحته تدهورت كثيراً بسبب فقده لابنه، وأشار إلى الضغط والسكري بأنهما أخذا من عافيته كثيراً ، وأنه يفتقد بصره الذي لم يعد كما كان سابقاً، ولم يستطع إكمال الحديث حتى فاضت عيناه بالدموع وسارع بمداراتها عبر راحة يده ، عندها أذنا له أن يأخذ قسطاً من الراحة. وقالت لمياء شقيقة الشهيد محمد إن والدها ظل من دون إخوته يرتبط بالشهيد كثيراً، وأن حالة والدها الصحية ظلت متدهورة بعد استشهاد محمد. لمياء تحدثت عن محمد بأنه كان يقوم بخدمة والده بشكل إنساني عميق، فضلاً عن أنه كان يقوم بغسل ملابس والدها ، وكان الأب والإبن الشهيد يقضيان الوقت في مزاح طول اليوم.
مساء الثامن من رمضان
تحدثت لمياء عن ملابسات وفاة شقيقها، واسهبت في الحديث وبدأت عيناها يكسوهما الحزن والأسى، أشارت إلى أن محمد فارق الحياة في الخامس عشر من مايو الماضي، وقالت إنهم لم يكونوا يعلمون بأن حالته خطرة وتؤدي إلى الوفاة، وقالت أنهم تلقوا الخبر ليلاً وأن شقيقه جاء راكضاً من القيادة العامة حيث مقر الاعتصام، في ذات الوقت الذي لا يعلم بوجود أخاه هناك، وعند قدوم الصباح الباكر يمموا وجهتهم صوب المستشفيات وجميع الأقسام، وأن جيرانهم بالحي هم من أخطروهم بالنبأ الفاجع، ومضت لمياء في الحديث وقالت: محمد تعرض لإطلاق نار في الثامن من رمضان وتوفى في العاشر منه، وبدأت وكأنها تحاول إخفاء دموعها، وإكتفت بنظرات تدل على أنها قبلت بقضاء الله وقدره، وقالت إنه أن والدته عندما إلتقته في مستشفى المعلم، وقالت ليه (الجابك هنا شنو يا ولدي) رد عليها محمد قائلاً: (أنا راجل يا أمي والوطن منتظرنا)، وقال لها: (لازم الحكومة تسقط وتبقى مدنية).
الشهيد صاحب الدرداقة
تدخل والد الشهيد محمد عيسي بالحديث مجدداً وقال إن ابنه غادر المنزل ولم يعد، وإن إحدى الممرضات أخبرتهم أنه متواجد بالمستشفى، وقال عندما وجدناه مستلقياً على جنبه، طالبهم محمد بجرعة من الماء لكنهم رفضوا إعطائه بسبب حالته الصحية، وأضاف والده أنه تم نقلهم من مستشفى المعلم إلى دار العلاج، وقال إنه لحظة توفى ابنه أغمي عليه، وأن السكري والضغط اتعباه، وأشار أن ابنه كان يتعجل الذهاب إلى القيادة العامة. وعاودت لمياء بالقول فيما يتعلق بطموحه وأحلامه ومستقبله الأكاديمي، قالت إنه درس حتى الصف الثامن، وأنهم كانوا عندما يطلبون منه العودة إلى الدراسة يخبرهم بأنه يريد أن يعمل وهو لا زال طفلاً صغيراً، مؤكدة بأن الشبلي الشهيد كان يساهم في مصروفات المنزل، وأن الناس كانوا يستنكرون عمله لأنه لا زال طفلاً. وأشارت ليماء إلى أنه ظل يقود درداقة بالسوق من أجل مساعدة الأسرة، وقالت لمياء أنه كان يتطلع للعمل والذهاب إلى الخارج وكان يسخر منها كثيراً بسبب دراستها للكيمياء ويمازحها (انتي قريتي عملتي شنو؟).
وحكت ليمياء بأنه قام باستخراج جواز سفر حتي يتمكن من السفر، وكانت لديه طموحات كبيرة لكن تم منعه بسبب صغر سنه، وطالبت لمياء بأخذ القصاص، وقالت إن القصاص مهم جداً وأنهم دونوا بلاغات وليس القصاص لمحمد فقط بل لكل الشهداء في أنحاء البلاد، وقالت إن شقيقها لم يتوجه إلى القيادة من أجل منصب بل من أجل قضية تهم الوطن وقالت (هسي الوطن أداهم شنو؟). وأضافت أن القصاص حق لكل الشهداء وأشارت أنه عندما يقتل الابن ليس فقط هو من يُقتل، بل الأسرة بأكملها وأنهم تأثروا كثيراً لوفاته، وقالت أن شقيقه الأكبر وهو سليمان يدرس بكلية الهندسة جامعة الخرطوم كان يجلس وحيداً في غرفة مظلمة وأنه إفتقد أخاه كثيراً، وكان لا يحادث أي زائر ولا يقابل أحد.
ومضت محدثتنا بالقول عن جوانب من شخصية شقيقها الشهيد الاجتماعية، ووصفته بالقول أنه كان بشوش الوجه والطلة، ورغم صغر سنه كان يعمل بالأسواق وتجده في الأفراح والاتراح، وإذا كان هنالك وفاة لأي من جيرانهم تجده أول من يهب لمساعدة الجميع في الحي، وكانوا دائما يقولون له أنت لا زلت صغيراً لكن يسارع بالقول (أنا راجل )، وأنه كان يقود المواكب ورفاقه يطلقون عليه لقب (الشبلي) وبيقولوا ليه (الشبلي مرق)، وأن جميع سكان الحي حزنوا لوفاته حتى أن بعضهم تكفل بإقامة صدقات على شكل سبيل (أزيار مياه)، بجانب أن شقيقها محمد كان يأتي اليها في منزلها لأنها لا تقيم مع أسرتها طالباً منها تعبئة الحافظة بالماء.
رؤية جوار الكعبة
وحاولنا الحديث بقدر الإمكان مع شقيقاته الأخريات لكنهن لم يستطعن نظراً لأننا ربما أيقظنا جوانب حزن مخفي لأشهر طويلة، فما كان منهن سوى اللجوء إلى الصمت، وكانت شقيقته الصغرى ميادة ظلت توزع نظرات مبهمة بالغرفة وكأنها تبحث عن أخاها الذي ظل يمازحها، وكان لها سنداً ويلبي لها كل طلباتها حتي أدواتها المدرسية كان يقوم بشرائها لها، وأن يوم وفاته كان نتيجة صعودها إلى المرحلة الثانوية، ويُقال أنها افتقدت شقيقها وحزنت كثيراً على فراقه لأنها كان تمضي معه أكثر الأوقات بالمنزل. أما والدة الشهيد لم نُحظى بمقابلتها لأنها كانت خارج الخرطوم، وكذلك لم نقابل شقيقه أيمن نظراً لظروف عمله. لكن لمياء حدثتنا بأن والدته ظلت صابرة وصامدة وقالت أن والدتها نذرت بأن تقوم بالعمرة لأجل روح الشهيد محمد نظراً إلى صغر سنه و(ماشاف حاجة في الدنيا) علي حد قولها.
وأخبرتنا ليمياء بأن والدتها بالفعل عندما ذهبت إلى العمرة كانت قد حلمت أنه أتاها في المنام وهي بجوار العكبة وقال لها الشهيد (أنا حي ما ميت، وما تحزنوا علي)، وقالت أن والدته اكتفت بالدعاء له متقبلة قضاء الله وقدره.
رسمه: عثمان الطاهر
صحيفة الجريدة