ما تفسده السياسة يصلحه الاقتصاد… كيف عادت روسيا إلى البيت الأوروبي على حساب أمريكا؟
في يناير/ كانون الثاني من عام 2018، وافقت ألمانيا لشركة “نورد ستريم 2” على بدء مد خط الأنابيب “التيار الشمالي-2” من روسيا إلى أراضيها، وبالفعل بدأت أعمال التشييد بعد أربعة أشهر.
بعد عام تقريبًا من تاريخ الموافقة، أرسل السفير الأمريكي في ألمانيا، خطابًا إلى الشركات المشاركة في المشروع يطالبها بالتوقف عن العمل، مهددًا بتوقيع عقوبات عليها حال الاستمرار، في تصرف عدائي غير مفهوم وليس الأول من قبل واشنطن.
وبنهاية العام الماضي، وقع الرئيس دونالد ترامب، قرارًا يقضي بفرض عقوبات على أي كيان يساعد “غازبروم” الروسية –المالكة للشركة المشغلة نورد ستريم 2- في إتمام مشروع خطوط الأنابيب الناقلة للغاز الطبيعي إلى بلدان الاتحاد الأوروبي.
وعلى الفور، أعلنت شركة “أول-سيز” السويسرية، والتي تعمل في تشييد مشاريع الأنابيب البحرية، توقفها عن العمل، خشية التعرض للعقوبات الأمريكية والحرمان من الوصول إلى النظام المالي في الولايات المتحدة.
على المستوى السياسي، أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والمستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، الشهر الماضي، عزم بلديهما مواصلة العمل على المشروع وإتمامه قريبًا (بعض التكهنات رجحت الانتهاء منه نهاية هذا العام).
ما هو “التيار الشمالي 2 بالضبط”؟
يهدف المشروع لتأمين حاجة ألمانيا من إمدادات الطاقة، وتشير تقديرات إلى بلوع تكلفته 11 مليار دولار، ويعتقد أنه سيضاعف سعة نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا، لكن الولايات المتحدة ترفضه بشدة.
ويمتد المشروع بطول يتجاوز 1200 كيلومتر تحت مياه البحر، من الساحل الروسي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، وبطاقة إجمالية تبلغ 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويا.
وتسبب في البداية في خلافات أوروبية-أوروبية، لكن تم تجاوزها بعد حصول كافة الأطراف المعنية بالأمر على تطمينات تجارية وبيئية، ومع ذلك لا يبدو ذلك مريحًا كفاية لواشنطن في الطرف الآخر من العالم.
وترى الشركات الصناعية الألمانية الكبرى ضرورة تأمين إمدادات الغاز الروسي في ظل تناقص موارد الغاز الأوروبية، والتكلفة المرتفعة وصعوبة استقدامه في صورة مسالة باستخدام الناقلات البحرية العملاقة.
الإصرار الروسي-الألماني قوبل بإصرار مماثل من الولايات المتحدة لمنع المشروع، حيث أشارت تقارير إلى أن واشنطن قد تتبنى حزمة جديدة من العقوبات على مشروع “التيار الشمالي-2″، وعلى وجه الخصوص ضد المستثمرين وشركات الغاز، وذلك في حال استمرار العمل لاستكمال مد الأنابيب.
وقالت صحيفة “هاندلسبلات” الاقتصادية الألمانية أن الكونغرس الأمريكي مستعد لتبني عقوبات جديدة “إذا حاولت روسيا استكمال الكيلومترات المتبقية من خط الأنابيب”، وأنه سيتم توجيه العقوبات ضد مستثمري المشاريع الأوروبية أو ضد الشركات التي تتلقى الغاز عبر خط الأنابيب الروسي.
ليس المشروع الوحيد
لم يكن “التيار الشمالي 2” هو محور الخلاف الوحيد بين الولايات المتحدة وأوروبا، ففي الشهر الماضي، افتتح الرئيس “بوتين” ونظيره التركي “رجب طيب أردوغان” مشروعًا مماثلًا تحت اسم “ترك ستريم” أو “التيار التركي”، والذي لم يسلم من التهديدات والعقوبات الأمريكية أيضًا.
المشروع الجديد يهدف بشكل أساسي إلى نقل الغاز إلى تركيا ومنها إلى وسط أوروبا، وقال عنه الرئيس “أردوغان” إنه مشروع ذو أهمية تاريخية للعلاقات بين موسكو وأنقرة، وهو ما يبرره محللون بأنه يعزز الأهمية الجيواستراتيجية لتركيا وينمي مواردها المالية.
بحسب بوابة “أرقام” للخدمات المالية والأخبار الاقتصادية، فإن المشروع يساعد تركيا على تحقيق حلم التحول إلى مركز رئيسي للغاز في المنطقة، في وقت لا تزال فيه أوروبا بحاجة للمزيد من الغاز.
يتكون المشروع من خطين، أحدهما يمد تركيا بحاجتها والآخر مخصص للإمدادات التي ستتحول إلى جنوب وشرق أوروبا، ويبلغ طوله نحو 930 كيلومترًا، وبسعة 31.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وتقدر تكلفته المبدئية بنحو 12.65 مليار دولار.
موسكو تتوافق مع أوروبا
أحد المخاوف الأولية والرئيسية التي سلطت بعض القوى الغربية وفي مقدمتها أمريكا الضوء عليها، كان الإضرار بمصالح أوكرانيا التي تجني نحو 3 مليارات دولار سنويًا من رسوم مرور الغاز عبر أراضيها.
لكن روسيا دحضت هذه المخاوف وتوصلت لتفاهم مع كييف في نهاية العام الماضي، بعد توقيع مجموعة اتفاقيات لمواصلة نقل الغاز عبر أوكرانيا، بما في ذلك عقد العبور لمدة خمس سنوات، في خطوة حظيت بتأييد ودعم الاتحاد الأوروبي.
حتى الدنمارك التي كانت من أشد المعارضين لمشروع “التيار الشمالي 2” وتعهدت بعدم السماح بمرور الأنابيب عبر مياهها الإقليمية، تخلت عن الخطاب الحاد، وتوصلت إلى تفاهم مع موسكو بشأن المشروع، وحصلت على التعهدات البيئية اللازمة.
وقال السفير الدنماركي لدى روسيا، كارستن سيندرغورد، العام الماضي، إنه قبل إصدار تصريح لبناء خط الأنابيب في المنطقة الدنماركية الخالصة، كان على بلاده التأكد من أن المشروع يفي بالمتطلبات الدولية والمعايير البيئية.
ورغم التهديدات بالعقوبات، افتتحت موسكو وأنقرة مشروعهما الخاص، وأعلنت الأولى عزمها مواصل العمل في المشرع الآخر “التيار الشمالي 2” دون مساعدة من أي شركة أجنبية، بعد إتمام 94% منه بالفعل.
ما سر التذمر الأمريكي إذن؟
في ظل الاستفادة المتبادلة بين أوروبا وروسيا، وقدرة موسكو على التفاهم مع كافة الأطراف الأوروبية وطمأنة حتى خصومها التجاريين، يبدو الموقف الأمريكي غير مفهوم، لكنه في الحقيقة مبرر بأسباب معلنة وأخرى غير معلنة، تعكس طمع وخوف واشنطن العميق.
قال وزير الطاقة الأمريكي، ريك بيري، العام الماضي، إن خط الأنابيب “التيار الشمالي 2” الذي سيتم إنجازه قريبًا سيعزز “نفوذ موسكو على سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية ويجعل أوروبا أكثر عرضة لانقطاع الإمدادات، وسيسدد ضربة كبرى لتنوع وأمن الطاقة في القارة”.
تتجه أوروبا إلى روسيا لثقتها في قدرة موسكو على إمدادها بالموارد المطلوبة. ووفقًا للإحصاءات الأوروبية الرسمية، تعد روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي، حيث توفر نحو 40% من احتياجاته السنوية.
في ظل التقارب الروسي-الأوروبي، وخاصة مع الجانب الألماني، لم تكف واشنطن عن إصدار الإملاءات، ومنذ الإعلان عن مشروع “التيار الشمالي 2” هاجمه الرئيس ترامب مرارًا، ووصف برلين بـ”الأسيرة”، لاعتمادها على موسكو في توفير حاجتها من الطاقة، ودائمًا ما كان التهديد بالعقوبات حاضرًا في خطاباته.
في الحقيقة، أمريكا هي أحد أكبر منتجي الغاز المسال في العالم وتسعى باستمرار لفتح أسواق جديدة لترويج منتجها الذي تعتبره “غاز الحرية”، لكن حاجتها إلى شحنه في صورة سائلة على متن ناقلات عملاقة للسفر بحرًا لآلاف الكيلومترات يعني أن تكلفته أعلى بكثير.
على الجهة الأخرى، فإن الغاز الروسي يتم نقله بسهولة أكبر عبر خطوط الأنابيب وبتكلفة أقل كثيرًا، في وقت يعاني فيه العالم من زيادة المعروض الغازي، ما دفع الأسعار للهبوط، وبالتالي يجعل ذلك من الصعب على المصدرين الأمريكيين منافسة نظرائهم الروس، بحسب مجلة “بزنس ويك”.
هل تأبه واشنطن بحلفائها حقًا؟
الأكثر غرابة في الموقف الأمريكي المبني على التهديد والتوجيه، أنه يتزامن مع تبني الرئيس دونالد ترامب سياسة تجارية عدائية تجاه الكثير من الدول بما في ذلك أهم حلفائه، حيث هدد مرارًا بفرض رسوم جمركية على سلع أوروبية بدعوى تقديم بروكسل دعمًا لشركة “إيرباص”، ولمنع فرنسا من فرض ضريبة على شركات التكنولوجيا الكبرى مثل “جوجل”.
هذا، وحذر رجال أعمال ألمان من مخاطر العقوبات الأمريكية على مشروع خط أنابيب الغاز “التيار الشمالي 2″، مشيرين إلى أن التدابير التقييدية قد تحول قطاع الطاقة في أوروبا إلى “لعبة” في يد الولايات المتحدة.
ونقلت صحيفة “دي فيلت” الألمانية عن رئيس اللجنة الشرقية للاقتصاد الألماني فولفغانغ بيوشيل قوله: “مشروع قانون العقوبات الأمريكية الأخيرة سيضر بمؤسسات الدول الصديقة مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنمسا وسويسرا. كما سيحول سياسة الطاقة الأوروبية إلى لعبة للولايات المتحدة”.
وأشار إلى أنه سيكون هناك “انقسام لا مفر منه” بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وسيتم إلحاق ضرر كبير بالجانبين، مضيفًا: “قضايا الطاقة الأوروبية هي شأن خاص بالأوروبيين، وستبقى كذلك”.
سبوتنيك