غازي صلاح الدين: طلب بعثة أممية أخطر قضية تواجه السودان.. وهذه تفاصيل لقائي بحمدوك
يعتبر غازي صلاح الدين العتباني من رموز السياسة السودانية وأحد أوجه الحركة الإسلامية بالسودان، لكنه ميز نفسه حين ثار على واقع الإسلاميين الحاكمين في بلده وصدع بدعوات الإصلاح التي كلفته الانشقاق عن تنظيم الرئيس المعزول عمر البشير وتكوين حركة “الإصلاح الآن”، ثم عاد للحوار مع نظام البشير وشاركه في البرلمان قبل أن ينسحب منه في يناير/كانون الثاني 2019 على وقع الاحتجاجات قبل نحو ثلاثة أشهر من سقوط النظام في أبريل/نيسان الماضي، ثم تولى رئاسة الجبهة الوطنية للتغيير التي تضم نحو 30 تنظيما جددت ثقتها فيه رئيسا قبل أيام.
ودون غيره من غالب التيارات والقوى التي شاركت البشير السلطة، كان لافتا لقاؤه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وسط عواصف من الاستهجان لهذا التقارب الذي كان جرى تحريمه بأمر “الثورة”.
التقته الجزيرة نت للحديث عن هذا اللقاء وتطورات الأوضاع في بالبلاد.
بداية كيف تنظر إلى خطوة رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان بالموافقة على لقاء رئيس وزراء إسرائيل في عنتيبي؟
هي أقرب إلى المغامرة منها إلى المؤامرة.. هناك رأي عام مقدر يعتقد أن استرضاء إسرائيل هو الطريق الأقصر إلى حل مشكلات السودان، وتأييد هذا الزعم يحتاج إلى دليل.
تجارب التطبيع التي شهدناها حتى الآن مع عديد من البلدان النامية لا تؤيد هذا الزعم. ربما نكتشف أن الخطوة تعكس تنافسا داخليا بين مكونات العملية السلمية الجارية الآن، فقد وردتنا للتو أخبار عن خطاب مرسل من رئيس الوزراء إلى الأمين العام للأمم المتحدة يطلب فيه إعمال الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة بصورة قد تجعل السودان تحت الوصاية الدولية.
إذا ما تقييمك لما أقدم عليه رئيس الوزراء تحت غطاء الحاجة لدعم عملية السلام؟
يمكنني بثقة تامة القول إن هذه أخطر قضية تواجه السودان منذ استقلاله، لأنها تعيدنا إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أي فترة جلاء القوات الاستعمارية، تلك اللحظة من التاريخ شهدت ميلاد أمة جديدة بكل ما يحمله ذلك الميلاد من وعود وأماني. هذا ليس أمرا بسيطا يترك لتقدير مجموعة سياسية صغيرة أو حزب سياسي، أو وزارة من وزارات الحكومة، هذا أمر سيتأثر به حتى الحيوانات في مراعيها، أول سؤال يثور هو كيف يرى رئيس الوزراء أن هذه المسألة يمكن التعاطي معها كأنها أمر إداري بسيط؟
ما المطلوب فعله؟
-أولا لابد من إعلان موقف وطني موحد رافض للقرار وذلك بالاتصال بكل القوى السياسية.
-ثانيا، التوجه إلى الجهات التي تصدر القرارات المصيرية الآن، تحديدا “قحت” (قوى الحرية والتغيير) والمجلس السيادي لسحب الخطاب من أجندة مجلس الأمن بخطاب رسمي صادر من الحكومة السودانية عبر الخارجية السودانية.
-ثالثا، في ضوء التحديات التي ستمطر علينا من كل ناحية، يلزم تغيير آلية اتخاذ القرار من أجل اصطفاف وطني فعال، وهو ما يعني إعادة تأسيس المشروعية من خلال إعادة كتابة الوثيقة الدستورية مصوبين نحو إنجاز الأولويات الوطنية التي تمثل الاجتماع الممكن.
-رابعا، إعداد ورقة سياسة خارجية محكمة للتعامل مع القوى والمؤسسات الدولية والإقليمية بما يخدم أجندة السودان ومصالحه الوطنية.
بالعودة إلى اجتماع عنتيبي، ما رأيك في تبرير البرهان بأنه فعل ذلك لحماية الأمن ومصالح الوطن العليا؟
يلجأ الساسة دائما إلى استخدام مبرر المصالح الوطنية، وهذا مفهوم، لكن بالمقابل عليك أن تثبت مقياسا متفقا عليه للمصالح الوطنية، إصدار مثل هذه القرارات المصيرية إلى البرلمان، أو للاستفتاء العام، لأن القرار هنا له تبعات بعيدة المدى وليس مغامرة.
أي مصلحة يمكن أن يجلبها التعاون مع إسرائيل؟
هذا هو السؤال المهم، يمكنني أن أعرض أمامك عشر حالات تطبيع لم تنتج في النهاية سوى عائدات محدودة لا يعتد بها. لو أخذنا سؤالك عما يمكن أن تقدمه إسرائيل للسودان، أظن لو استفتينا عينة عشوائية من الشارع العام الآن فسيجيبك غالب الجمهور المشارك أن الاستعانة بقبضة إسرائيل على الكونغرس لمحو اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولكن هل سيحدث ذلك؟ أنا مقتنع بأنه لن يحدث ولن تؤدي تلك الخطوة إلى تغيرات جذرية في نظرة إسرائيل إلي جيرانها، وستظل علاقة إسرائيل مع جيرانها علاقة حرجة ومأزومة، لأن الفكرة التي تأسست عليها إسرائيل لن تتغير.
هل يمكن أن تتجاوز واشنطن شرط تعويض السودان لضحايا تفجيرات سفارتيها والمدمرة كول وتتخذ قرارها بحذف السودان من قائمة الإرهاب قريبا كما تنبأ البرهان؟
من ناحية مبدئية فإن الشروط والمطالب الأميركية يمكن أن تعدل كما حدث وعدلت في الماضي: توقيع اتفاقية نيفاشا، المسارات الخمسة المشهورة في آخر عهد أوباما، ثم قضية الحريات الدينية، وأخيرا مسألة تعويض ضحايا التفجيرات.
إذا فالعلاقة مع إسرائيل لم تكن بين الشروط الموضوعة لرفع العقوبات؟
الملاحظة صحيحة -إمكانية استخدام العلاقة مع إسرائيل لإحداث اختراق في العلاقة مع أميركا- تاريخيا هذا حدث في حالات مشابهة في دول أخرى لكنني أستبعد أن ينجح في الحالة السودانية، لأن هناك مزيدا من الطلبات الأميركية في المجال الثنائي لم تستوفها أميركا بعد، وستظل تدفع بها كل ما سنحت فرصة لتوسيع أجندة التفاوض وفقا لمحركات السياسة الأميركية.
على الصعيد الداخلي كيف تفسر اتخاذ البرهان خطوة بهذا المستوى دون علم الحلفاء؟ بمن استقوى؟
المسألة في نظري تتعلق بالحصول على تأييد الجيش بالكامل في معركة المفاهيم الجديدة التي تفرعت من تجربة الإنقاذ، وهذا بالطبع سيكون على حساب العوامل الأخرى داخل المعادلة السياسية.
وما الذي يعنيه هذا؟
هذا سيعني بالضرورة إضعاف القوى المدنية، خاصة تلك التي اكتسبت من المرانات الديمقراطية السابقة قدرا كبيرا من الاستقلالية والقوة الذاتية. في مقدمة تلك القوى تأتي فئات ممن يمكن وصفهم بالإسلاميين الجدد، وهم ليسوا جددا بالكامل لكنهم نشؤوا وتكونوا في ظل تجربة الإنقاذ وتبنوا موقفا إصلاحيا واضحا تجاه الدولة الحديثة. تنضوي تحت القوى المتأثرة سلبا عديد من فئات اليساريين الجادين. كذلك سيكون من الآثار إضعاف القوى المدنية، وتحجيم نوعي وكمي لقوات الدعم السريع. القوى المستفيدة من الزيارة ستكون ذات توجه يميني محافظ ويتسم بقدر كبير من السطحية.
اعلان
وما تأثير ما حدث من تشاحن واتهامات بتجاوز البرهان للوثيقة على مستقبل الفترة الانتقالية؟
برهان في نسخته الجديدة سيكون أقوى من أن تطيح به القوى المعارضة الحالية التي سيكون من السهل عليه تشقيقها، والأزمة الدستورية المزعومة لن يطول بها الزمن قبل أن تكنس تحت البساط وتصبح بعدئذ قضية أكاديمية، مثلما حدث لقضية حل الحزب الشيوعي. الفترة الانتقالية ستكون مرصوصة بحروف يمكن قراءتها من زوايا مختلفة لتعطي مدلولات مختلفة.
ما رأيك بموقف قوى التغيير والوزراء الرافض للتقارب مع إسرائيل باعتباره شأنا خارج اختصاصات الحكومة الانتقالية؟
يستحيل بالطبع اعتبار هذا الأمر السياسي بامتياز خارج اختصاصات أي حكومة جالسة. من ناحية فنية نعم صحيح ليس من مهام الحكومة الانتقالية الفصل في مسائل معقدة مثل العلاقة مع إسرائيل، ولكن هذا المفهوم قد تم تجاوزه قبل دهر من الزمان بالممارسة العملية التي حشرت داخل الوثيقة الدستورية كل البرنامج الحزبي لمكونات (قحت).
إذا اصطدمت وعود البرهان لنتنياهو بالتعاون مع رفض المؤسسات التنفيذية التعاطي معها كيف يمكن أن نرى نهاية المشهد؟
نتنياهو قبض الهدية التي أهديت إليه ووضعها في جيبه الخلفي. هو الآن في أمان بعد أن حصل على كل ما كان يطلبه ولم يعد لديه شيء يخسره من الفضاء السوداني، بعد أن أصبح شريكا فيه. أما المؤسسات الرسمية المضطربة فإنها تعود في النهاية إلى مواقعها مهما تطاولت أزمات معارضتها.
التقيت رئيس الوزراء قبل أيام، كيف جرى الترتيب لهذا الاجتماع؟ وما علاقته بطرح القيادي اليساري المفصول من الحزب الشيوعي الشفيع خضر الذي تحدث عن إمكانية التنسيق مع الإسلاميين المؤمنين بالديمقراطية؟
اللقاء كان امتدادا لفكرة نشأت على هامش سمنار أعدت له “دار تشاتم” البريطانية بداية العام الماضي، وكانت هناك حماسة للفكرة، نحن جددنا المقترح وفي النية إخراج العملية السلمية من النفق المسدود، وكانت الاستجابة من مكتب السيد رئيس الوزراء فورية.
الشفيع ماركسي تجديدي، بمعنى أنه يهدف في النهاية إلى إصلاحات مهمة في النظرية الماركسية، ولكن هذه الإصلاحات في النظرية ينبغي أن تكون مهتدية بما يفرزه الفكر الحركي الماركسي أو “البراكسس”.
ومن المفارقات الطريفة أن معاناة الماركسي التجديدي مشابهة تماما لمعاناة الإسلامي المجدد الذي يعمل للمواءمة بين مكتسبات الإنسانية من أدوات الحداثة وبين مطلوبات التدين الصحيح، وذلك في ضوء فقه حركي متجدد.
هاتان النقطتان ستظلان تمثلان عاملي جذب في الماركسية السياسية والإسلام السياسي وستسيطران على موضوعات الحوار الماركسي الإسلامي. حسب علمي فإن الشفيع مؤثر في دائرته الماركسية ويمكن أن يمتد أثره إلى الدائرة الوطنية، لكنه وأمثاله من اليساريين المستنيرين مكبلون بأطنان من خردة التخلف الماركسي التي تحصي عليهم أنفاسهم وتملي عليهم ما يأكلون في إفطارهم.
شعار الحاضنة السياسية للحكومة كان إقصاء كل من شارك في نظام البشير، والإسلاميين على وجه التحديد، هل بسبب ذلك قوبل اللقاء باستهجان كبير؟
ردة الفعل المدهشة لما أنجزناه -خلال اللقاء مع حمدوك- كشفت لي مقدار التراجع في حيوية الأفكار الماركسية السائدة قياسا إلى ما كان سائدا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وكما ذكرت لبعض الأصدقاء، ينبغي أن نشعر بعقدة الذنب إزاء هذه الحقيقة لأنها مرتبطة بحادثة حل الحزب الشيوعي، يعني نحن ساهمنا في تخلف الشيوعية وارتدادها إلى وضع هجومي وهمي، بسبب حل الحزب الذي عددناه حينها نصرا. في دراستي لردود الفعل لمقابلتي لحمدوك وجدت الملاحظات الآتية:
-أولا، عدد مقدر من أعضاء “قحت” اليساريين بطاقاتهم الديمقراطية تالفة تماما. بعض هؤلاء استنكر، ليس فقط مقابلتي رئيس الوزراء ولكن محض وجودي في واحدة من قلاع الثورة ورموزها (يقصد مجلس الوزراء) هذا سيجعلني أتحسب لأسوأ مصير، لأن الذي يستنكر وجودي في حرم مجلس الوزراء قد يستنكر وجودي حتى في الشارع العام، بل وجودي مطلقا، وهذا ما يجعلني متشككا في نوع العقيدة الديمقراطية التي تؤمن بها وتمارسها بعض الشخصيات “الفولتيرية” داخل “قحت”.
-ثانيا، من قراءتي لنصوص السباب التي انصبت علي من سماء “قحت”، لاحظت تكرارا مريبا لبعض المصطلحات والتعبيرات شبه الماركسية، وفسرت الظاهرة على أنها عملية تنميط وتلقين خفية.
ماذا تقصد؟
يعني هم يقرؤون نصوص بعضهم بعضا ويكررونها خلسة، بل يكررون حجج بعضهم بعد حفظها لبعض الوقت في ثلاجات بلشفية، صناعة تايوانية، ويكون الناتج خاليا من رصانة الإيمان وفحولة الإلحاد. هؤلاء لن يكفيهم نزول الشفيع بينهم، هؤلاء يحتاجون إلى نبي، لكن النبوة ختمت.
هل تعتقد أن حمدوك راغب فعلا في أن يكون لبعض الإسلاميين إسهام في الفترة الانتقالية؟ وهل هو قادر على مواجهة حملة الضغط الخارجية عليه حال قرر المضي في هذا الاتجاه؟
الافتراض الطبيعي هو أن حمدوك يريد أن تنجح مهمته، وهو مستعد للتضحية في سبيل ذلك الهدف، والمضي قدما نحوه، وإذا كان النجاح متاحا بواسطة الإسلاميين، فمن المنطقي أن يستعين بهم رغم التشويشات الصادرة من البعض.
البعض يستغرب أن غازي ما زال طليقا رغم أنه من المطلوبين للتحقيق في انقلاب 1989، هل تتوقع اعتقالك؟
كل شيء وارد، لكن أنا اعتقلت ثلاث مرات في فترة الجامعة، لذلك لا أخاف من الاعتقال، لكني لا أتمناه.
كيف تنظر إلى مستقبل الحكومة الانتقالية؟ هل ستكمل الفترة المحددة بثلاث سنوات أم أن سيناريو الانتخابات المبكرة هو الأقرب؟
الأرجح أن تتأخر الانتخابات، لأن هذه هي إرادة أعضاء المجلس السيادي، وهي رغبة “قحت” أيضا، قد يتغير هذا إذا تغيرت الظروف.
إذا افترضنا أن الانتخابات ستأتي قبل أوانها، ما فرص التيارات الإسلامية في المنافسة؟
حساباتي تشير إلى أن الإسلاميين سيحصلون على 25% من الأصوات في الحد الأدنى، وهذا سيؤهلهم للمرتبة الثالثة في البرلمان.
هل لديك يقين بأن الحركة الإسلامية في السودان بات لديها ما تقدمه بعد محصلة 30 عاما في الحكم؟ نرى جميعا نهاياتها الآن من اتهامات بالفساد وتحطيم الاقتصاد وغيرها من أوضاع.
التيار الإسلامي عموما -وليس الحركة الإسلامية تحديدا- سيظل فاعلا مؤثرا في الساحة السياسية لفترة معتبرة من الزمن.
مزدلفة محمد عثمان-الخرطوم
المصدر : الجزيرة نت