مدارات

والد الطبيب السوداني الفقيد “مهند الضاوي” ينعي ابنه بكلمات مؤثرة ويحكي ساعة تلقيه الخبر

بقلم الضاوي نوار في رثاء ابنه د مهند

“كان حلواً ، كان لامعاً ، كان مضيئاً ، كان متميزاً فى فصله ، كان ممتعاً ، كان موهوباً يعزف الجيتار ، يلعب كرة السلة ، كان بطلاً فى السباحة ، هوايته القفز من الطائرة و السباحة فى السماء ، كان كريماً ، ذراعه واصلة لأهله حتى الدلنج ، كان سخياً و هو فى الثانوي رأيته يحمل لأخينا عبدالله استشاري النفسية جوالاً من السكر ليصعد به الى الطابق الثالث ، رفض أن يحمله عبدالله معه ، وضعه على ظهره و ترنح به للطابق الثالث.

كان متواضعاً حتى الارض ، كان شجاعاً ، حينما أفتتح برنامج الخدمة الوطنية و عزة السودان ، وجدت بين أصدقائي أكثر من رتبة فريق لإعفائه من الالتحاق ، لكنه آثر الانضمام للخدمة وكان منفتحاً حتى للالتحاق بالمجاهدين فى أحراش الجنوب ، إجتهد لدخول الجامعة بالقبول العام ، و تخرج فخوراً من جامعة الجزيرة ، حاولت إثنائه عن عالم الجراحة ، فاجأنى قبل دخول فترة الامتياز بالنجاح فى الجزء الاول من امتحان زمالة الجراحة و نجح فى الجزء الثانى بعد إكمال الامتياز مباشرة ، كنت متردداً فى ذهابه لاوروبا ، لكنه سافر ليقضى ستة أشهر فى الجراحة العامة ثم جلس منافساً لعشرين متقدماً لجراحة القلب اغلبهم من الأيرلنديين و فاز بالمقعد الوحيد ، و ظل اول الحاضرين و آخر المغادرين من المستشفى

تمت ترقيته بسرعة من سنيور هاوس اوفسر لريجيسترار ثم لسينيور ريجسترار ، و اختار موعده للجلوس للامتحان النهائي فى اكتوبر القادم .. عاد من الإجازة للعمل وكنا معه ودعانا لزيارة مستشفاه ، على بوابة الدخول همس لأمه مازحاً أن أغمضى عينيك ، كانت عودته تثلج صدر كل سودانى ، ممرضين و ممرضات ، فراشات ، عمال ، موظفين و زملائه نساء و رجال ، لم يسلم على أحد بيديه ، بل تلقفوه عناقاً ، سعدت يومها كسوداني ، و قولة الازهرى المشهورة (أتيناكم بصداقة الشعوب).

كان صديقاً لي قبل أن يكون إبن ، و لا يمتعنى شئ مثل الجلوس إليه ، تعلم المشي على يدي ثم ركوب الدراجة ، تعلم قيادة السيارة و عمره ستة سنوات ، تعلم على يدي طلوع الأشجار و ركوب الدواب لم أكن أخشى عليه غير يوم مثل هذا !

مهند كان روحى و طموحى لتحقيق كل الأشياء التى لم أتمكن من تحقيقها .. فالفتى يملك أكثر من كل قوة أمتلكها أنا ،كان يمتلك الصبر و الذكاء ، الجرأة ، و الطموح .. ما زالت ترن فى أذنى كلمات والدته يوم أن كنا نودعه للسفر للأردن للامتحان ، قالت نذرها زغرودة له إن وفقه ربى ، لكن حينما نجح فى إمتحان الجزء الثانى من زمالة الجراحة ، فعلها و كأنه فى رحلة ، نسيت المسكينة الزغرودة و تحدثت عن أشياء يخشى الناس ذكرها ( جنى فراق ) ( العين ) و لا حول و لا قوة إلا بالله .. ومن بعدها صار ملهماً لأخوانه و أتاهم بمقوله ظلو بعد ذلك يرددونها ، بأن لا يتجرس أحدهم و هو يخوض امتحاناً بل أن يتنبّر ( أنا الشابة أخت الشاب و أنا الشاب اخو الشاب ) لم يتذكرو والدهم الذى خاض عشرات الامتحانات و فى اركان الدنيا الاربعة.

لم أتخيل حتى فى أحلامى الجامحة و أحلك مخاوفى أن يأتى يوم التفت اليه و لا أجده ..
كنت فى المستشفى لإسعاف مصابي حادث و المصابون أبناء لصديق ، رن جوالى و الاتصال كان من ايرلندا ، لم استطع الرد عليه ، لكن الهاتف لم يتوقف ، و لأن مهند ما زال يعانى من الأعراض ، وجدت فرصة من بين زحمة الانشغال بإسعاف المصابين لأتلقى المكالمة ، و يا لهول ما تلقيت ، تنمّل جسدى ولم أدرك لحظتها هل أنا إنسان أم آلة فأمامي أرواح آدمية على المحك ، ينبغى إن بقى معى عقل أن يكون لها ، لكن ضاع الزمن ، لم أدرك كم من الوقت مضى ، أكملت إسعاف المصابين ( و تلك يا سادتى هي حياة الطبيب ، لا يهم إن كان مريضاً او حزينًا أو مفجوع ، فأمامه واجب عليه أن يؤديه ، و اعجب للاعتداء على الاطباء فى بلدى ).

ثم صرت أنا لست أنا ، مجرد مسخ يغلبه المشى ، يحاول جاهداً أن يضع قدماً أمام الأخرى تحاشيا للسقوط ، لم أصدق أنى وصلت السيارة ، لكن تبقى التفاصيل الصغيرة ، فتح باب السيارة ، و القيادة ، كل الأشياء تبقى فوق القدرة ، و كأن السيارة ستفلت منى و تصطدم بالمبانى حولها ، بوابة السكن الداخلية أوسع من اربعة أمتار ، كانت محنة كيف أقود من خلالها بل كيف أوقف السيارة ، ثم الباب الخارجي للمنزل و الباب الداخلي ، و كيف أكسر الخبر لوالدته ، التى لم تصدق ، و يا وجعها ، كان حبيبها و رفيقها و روحها .. كانت إذا عانت من أي شئ يحملها بين يديه ليضعها على الفراش ، بل كان يحملها و يدور بها دون سبب فقط من باب المرح و الإحتفاء ، و كم من مرة حملنى أنا على يديه أيضاً حين تنتابني آلام الظهر فى وقت لا احتاج لغير أن أتكئ عليه !

مالك يا مهند قطعت قلبى و كسرت ظهرى ؟
مالك يا مهند تركت لي أياماً وددت فيها أن أغمض عيناي و لا افتحها مرة أخرى فلا سبيل للقياك غير ذات الدرب ..
و لا أقول إلا إنا لله و إنا إليه راجعون ، رحمك ربى رحمة واسعة يا مهند ورضي عليك .. فوق رضائنا عليك و بلا حدود ..”

السوداني

تعليق واحد

  1. عظم الله أجركم يا أبا مهند وألهمكم الصبر الجميل في مصابكم الجلل ومصاب السسودان وشباب السودان وأنزل على قبر مهند شآبيب الرحمة والمغفرة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. والله كلماتك يا أبا مهند تقطع نياط القلب وتحزن الحجر فما بالك بالإنسان ولكن لا نقول إلا ما يرضي إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا لفرلقك يا مهند لمحزونون.. سائلين الله أن يلهمكم الصبر والسلوان.