غازي: الطيب زين العابدين قال لي ذات مرة: “أنا نشأت فقيرًا، فضاق خيالي عن فكرة الثراء”

بسم الله الرحمن الرحيم
يا لإتلاف الأرواح! بالأمس فقط ذكرت أستاذنا وقدوتنا الطيب زين العبدين، ليس كذكرى عابرة ما يلبث المرء أن ينساها، إنما كمن يوقفك في الطريق من خلف ثم يشير إلى عينيه بأصبعيه قائلا في لغة خرساء معبرة: لا تنسني. يتملكني اعتقاد قوي أن تلك كانت لحظة النزع، فخبر وفاته صباح اليوم كان أول الأخبار. حزنت أني لم أودعه قبل مغادرتي السودان رغم علمي، باعتباري طبيباً، بأن النهاية كانت قريبة رغم تجلده واستبساله في التبسم.
ما حدثني أناس عن الإخلاق إلا وجدت فيهم مغمزا، غير قلة كانوا يعنون ما يقولون، وبين هؤلاء أضع الطيب في المقدمة. كان مبدئيا لدرجة الهوس، ورغم المعلوم من أن عرائك الرجال تلين بعد الأربعين، فقد كانت للطيب عريكة لا تلين وعزيمة لا تساوم. منذ عرفته قبل أكثر من ثلاثة عقود، شهدت معه اجتماعات كثيرة في الشأن الخاص والعام، وفي كل محفل في عقباه غنائم كان لا يأبه أن يقف وحده، لا يترضى بموقفه أحداً من أصحاب السلطان والنفوذ، ولا يقف معهم اليوم طمعا في ما لديهم غدا. ما رأيت مثله جلداً في إعلان رأيه، مقاتلا في ذات الوقت عن حق خصمه في الرأي والجدل. كان كما أوجز ذلك الأديب القول في صديقه فأبدع وأمتع: “كان وحده الذي شكّل الكتيبة”.
كنّا سويا، وثلة من سراة القوم، رواداً في إنشاء “مؤسسة اتجاهات المستقبل” فكان غرة في جبينها، تعرف به ولا يعرف بها. كانوا جميعًا شامات في المجتمع، بين باحث ومحلل ومفكر ومحسن، توافقت ميولهم برغم تباين انتماءاتهم وتناصروا ليجعلوا للسياسة منهجًا، لكن ترتيب الأولويات القومية كان يضع النظر السياسي والتخطيط في ذيل قائمة طويلة يحرسها رجال أقوياء حلاقمة، شعارهم المقدس:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدراً وطينا
كان قاسياً على نفسه في المسائل المالية، وكانت لي معه أحاديث في هذا الصدد، وقد لخص
لي منهجه في هذه المسألة تلخيصاً بديعاً، قال لي ذات مرة: “أنا نشأت فقيرًا، فضاق خيالي عن فكرة الثراء”. لله درك يا طيّب، إنك لا تدري ما أحدث الفقراء خلفك.
طبت يا طيب ولك المغفرة ولأهلك السلوان، ولنا العبرة، وعسى أن تجد عند مولى كريم من رؤيا ورضوان ما أخطأك في الدنيا من مثال ظللت له وفيا حتى اللحظة الأخيرة من حياتك.
غازي صلاح الدين العتباني
١٤ مايو ٢٠٢٠







رحمه الله رحمه واسعه واسكنه فسيح جناته
أسأل الله أن يغفر له و يرحمه
و أن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان
قد أحببته في الله
فقد عاش ربانيا و وطنيا مخلصا
ما أعظم أن يكرس المرء كل حياته للحق
حامد برقو عبدالرحمن