الطيب زين العابدين (1939-2020)

بسم الله الرحمن الرحيم
الطيب زين العابدين (١٩٣٩-٢٠٢٠)
محمد محجوب هارون
معهد أبحاث السلام
جامعة الخرطوم، السودان
١٤ مايو ٢٠٢٠
مضى البروفيسور الطيب ين العابدين محمد علي و سنمضي حيث تنتهي الرحلة و تنوخ الراحلة. كل نفس ذائقة الموت. إنا لله و إنا إليه راجعون. لكن ليس ممكنا أن يمضي انتقال الطيب إلى الرحاب الفسيح ( الخرطوم، ١٤ مايو ٢٠٢٠) دون الإدلاء بشهادة عنه مستحقة، و إن إستعصت الكتابة. غادر الطيب مرفوع الرأس موفور الكرامة، ما تلجلج و الموت يطرق بابه:
فهلمي يا منايانا جحافل
تجدينا لك أنداد المحافل
القرى منا وفينا لك والديوان حافل
ولنا صبر على المكروه- إن دام- جميل
هذه أعمالنا مرقومة بالنور في ظهر مطايا
عبرت دنيا لأخرى تستبق
نفذ الرمل على أعمارنا إلا بقايا
تنتهي عمرا فعمرا وهي ند يحترق
ما انحنت قاماتنا من حمل أثقال الرزايا
فلنا في حلك الأهوال مسرى وطرق
فإذا جاء الردى كشر وجها مكفهرا
عارضا فينا بسيف دموي ودرق
ومغيرا بيد تحصدنا، لم نبد للموت ارتعادا أو فرق
نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا لنا ذكر وذكرى
من فعال وخلق
ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الكادحين
وولاء، حينما يكذب أهليه الأمين
ولنا في خدمة الشعب عرق
تتلمذنا على يدي الطيب، خارج قاعات الدراسة، و نحن أيفاع بعد، طلابا في جامعة الخرطوم بعد التحاقنا بها عند خواتيم عقد السبعينيات من القرن الماضي. كان الطيب، وقتىذ، تفرغ مديرا للمركز الإسلامي الأفريقي. سكن في منزل حكومي في شارع الجمهورية لا يبعد عن جامعة الخرطوم و داخلياتها التي آوتنا طلابا قادمين من ريف بعيد وراء مرمى شمس الغروب. كانت ضيافة الطيب و زوجته الفاضلة، الأستاذة بثينة، تتسع علاجا لكيف الشاي و كيف الفكر معا. ومضت الأيام فتزاملنا، ليس كتفا بكتف إذ كان الطيب، كما ينبغي له و يستحق، رفيع العماد، خلقا و فكرا و أهلية Meritocracy. جمعتنا بالطيب الدروب و كم طاب الدرب معك أيها الطيب الأمين.
لاحظت لسنين خلون كيف أن تأبين من نفقد ممن نعز، ذوي قربى و أصدقاء و أصحاب فضل، تغدو مناحات لا تفارق الذي صار في حكم ما مضى قيد أنملة. النساء يمضين نائحات على نحو ما جرت عليه العادة في مجتمعنا، و الرجال يمضون نائحين، لا فرق. و بين النواح و الإستغراق فيما مضى تضيع الدروس و الحكمة التي كان يكرس ممن هم من قبيل الطيب زين العابدين لها عمرا من الأيام و الأفكار و الأعمال. أعمل ألا تكون شهادتي هذه عن الطيب من باب النواح و لا من صنف الإنكفاء على الذكرى، و الإستغراق في التاريخ. مثل الطيب مسيرة إلى المستقبل و مفتاح للآفاق و الأفراح و المسرات المقبلة.
للطيب شخصية من صنع نفسه. مرانه على الحياة باكرا، أولا و قبل كل شيء، و تنشئته متدربا أن يكون معلما في بخت الرضا، ذات السيرة الشهيرة في بناء الشخصية، ربما إنتهيا بالطيب حالة من الجدية لا تخطئها عين رقيب. تتقابل شخصية الطيب زين العابدين بجديتها، كسمة طاغية، مع ما يفضي إليه تحليل شخصيات سواد غالب من النخب الوطنية التي يطغى عليها الميل للإسترخاء و عدم الإكتراث و السلبية و (الإستهبال) و (البلطجة(. جدية الطيب تراها تمشي على ساقين لا تحتاج إلى (درس عصر) لاكتشافها و الإستيثاق منها. يعبر الطيب عن جديته في صراحته و نفاذه لما يرى وجاهته، معرفة أو موقفا، على نحو مباشر. علمته جديته و هو المعلم أن يعقد علاقة مع التعلم، في الوقت ذاته. و بهذه السمة الشخصية إمتلك الطيب بنية ذهنية لم تعرف التعصب و لا التخندق عند موقف بائن فساده. يحتفظ الطيب في مكتبه و في اجتماعاته و في لقاءات العمل بمذكرة و قلم. الطيب حفي بتدوين الوقائع و الخلاصات. ما كان متصالحا مع العشوائية و عدم الإكتراث و استسهال التعامل مع الأشياء. تعلم الطيب، و بذلك تعود، أن يعني ما يقول. حكى لنا، مرة و أخرى، قصة (قلم التروبن) مع أعضاء لجنة ناد في مدينته الدويم. و قلم التروبن لللاحقين من أجيال الأبناء قلم حبر سائل فخم كان يقتنيه الأفندية المتعلمون حتى قبل بضع عقود من الزمان. و هو أقرب إلى متممات الوجاهة و بناء صورة الأفندي. قال الطيب أنه اختلف مع لجنة النادي التي كان مسؤولا قياديا فيها فيما رآه ضربا من عدم الجدية و الإلتزام. فأنهى إلى علمهم أنه قرر أن يضع قلم التروبن على جيبه و يغادر موقعه بينهم. فعل الطيب ما قال و غادر النادي و لجنته ربما إلى غير ما رجعة. كان في مناسبات و أندية عمل مشترك يقول لنا، بمنتهى صراحته، أنه سينفذ معنا قصة قلم التروبن. في واحدة من هذه المناسبات صدق الطيب القول بالعمل. حكى، و سيحكي، أصدقاء و تلاميذ للطيب، تولاه الله بواسع رحمته و فيض إحسانه، قصصهم معه و عنه. أدلى بعضهم، و سيدلي بعض آخر، بشهادات مستحقة عن الطيب. مثل أولئك و هؤلاء، بين يدي شهادات تستحق الرواية. أما لكي لا أفسد بالإطالة، لن أمثر و لن أطيل.
كنت، ضمن نخبة صغيرة من الأصدقاء و الأساتذة الأفاضل، تابعت مع الطيب زين العابدين، الأعمال التأسيسية لمبادرة السلام و الإصلاح (٢٠١٦-٢٠١٩)، و التي أسماها الرأي العام الوطني، كذلك، مبادرة مذكرة الأثنين و خمسين (شخصية بالطبع). نبعت الفكرة من لقاء جمع عددا من الإخوان من منسوبي الحركة الوطنية للتغيير مع ضيفهم القادم من خارج البلاد الدكتور عبد الوهاب الأفندي. لم أكن حاضرا ذلك اللقاء بسبب سفري، حينئذ، خارج البلاد، فيما أتفق المجتمعون أن يطرحوا مبادرة تحرك جمود حركة الفضاء العمومي في البلاد في ظل تعقد أزمتها السياسية و الاقتصادية و الأمنية و الدبلوماسية. و بدون الخوض في مضامين تلك المبادرة التي سارت بذكرها مجالس النخبة السودانية و أنديتهم فضلا عن متابعة القوى الإقليمية و الدولية لها بإهتمام واسع مستحق، كان الطيب زين العابدين نجم تلك المبادرة بلا منازع. جمعت المبادرة، من أجل تحقيق هدفها بالدعوة لوضع انتقالي و الذي عبرت عنه في مذكرة عميقة وجهتها للرئيس السابق، المشير عمر البشير، الذي آثر أن يشيح بوجهه عنها، ربما لأن ناصحيه ما كانوا يرغبون في قبول ما عرضته مذكرة المبادرين تلك، جمعت المبادرة، بمجهود لم يعرف الراحة، نخبة من الرجال و النساء من المهتمين بالشأن العام الوطني، من خلفيات مهنية و سياسية و فكرية و دينية و إقليمية و عمرية ما أظن أنها توفرت لاجتماع وطني مماثل في عقودنا الثلاثة الماضيات. لم تشتمل مبادرة الأثنين و خمسين على ما اشتملت عليه من تنوع خلفيات أعضائها و عضواتها فحسب، بل، مع ذلك، تمتعها بدرجة واسعة من قبول الرأي العام و تقديره لغير قليل من منسوبيها. إلتأمت هذه المبادرة بعضويتها الأثنين و خمسين من بين نحو مائة شخصية جرى الاتصال بها، و بعد تداولات طويلة صبورة لتأسيس إتفاق الحد الأدنى على هويتها و مهمتها. كان الطيب يسهر الليال الطوال في الوصول إلى الأعضاء و العضوات الذين و اللائي رشحتهم المجموعة المؤسسة، دارا دارا مع مشقة قيادته السيارة بالليل. كان الطيب، للأمانة، يمثل غالب رأسمال مبادرة الأثنين و خمسين، إذ بما تميز به من بنية ذهنية مفتوحة، و مواقف إلى جانب الحق مشهودة، و انفتاح على تيارات الحركة السياسية الوطنية، المعارضة على نحو خاص، و قبولها له، ما قصرت عنه قامات أغلب النخب من منسوبي تيار الإسلاميين، بكل هذه الميزات كان الطيب هو المجال المغناطيسي الذي جذب إلى المبادرة القبول.
قدمت المبادرة ما قدمت فهي قيد حكم الرأي العام عليها، و أنجز السودانيون و السودانيات التغيير الذي استهدفت المبادرة وقوعه، بمنهج مغاير. و لكن لم تفتر لأستاذ العلوم السياسية و الفارس الجسور الذي تقدمت به السنون همة. هرعنا، صديقي الدكتور خالد التجاني و زوجتي هويدا حسين شبو و شخصي، لزيارته عقب عودته من رحلة علاجه الأخيرة من مصر. تسامر معنا في شأن البلاد، كما تعودنا معه، و لكنه نادى علينا بأن نبحث عن سبيل للإسهام في إصلاح أعطاب تجربة الانتقال السياسي الجارية و إقالة عثرته.
كان الطيب واسع البصيرة عميقها، كان فارسا شجاعا، شاهدا بالحق، لم تأخذه فيه لومة لائم. كان زاهدا بحسابات المشاغل الخاصة و هو يعلم أن في فضائه الخصوصي من المشاغل ما يكفي، عند غيره، للانصراف عن المشاغل العمومية (الحصة وطن، كما تقول الأجيال الأنضر شبابا). و إذا لوح الطيب بيديه، و بوجه طليق المحيا، مودعا، مع السلامة. فالسلامة التي اختتم بها فصل الحياة الدنيا من سيرته هي سلامة هذا الوطن. هي أن يتولى، السودانيون و السودانيات، مسؤولية أن يضعوا أمام تاريخهم من هدر الفرص و القدرة الوطنية نقطة فارقة (Full Stop).
و هكذا . . و نحن نرنو للمستقبل بعين الأمل و ساعد العمل، يلزمنا، ضمن ما يلزمنا من سيرة الطيب زين العابدين، ماغادر و هو موضوع همه و انشغاله. ظل الطيب، في عمره من الإنشغال بفضائنا العمومي، باحثا عن مخرج من تجاربنا في التحول الديموقراطي سريعة الإنهيار. كان منتهى نظره في هذه الظاهرة اقتراحه لما أسماه الديموقراطية التوافقية. لم يكتف الطيب بتأسيس الديموقراطية التوافقية كأطروحة نظرية، بل اجتهد، أيما اجتهاد، في تصييرها نموذجا تطبيقيا كما فعل أثناء انخراطه في كتابة مقترح قانون الانتخابات (٢٠١٠). ترك الطيب ميراثا مدونا حول الديموقراطية التوافقية و تطبيقاتها، ما يتجاوز كونه علما ينتفع به إلى مقترح ربما نظرت فيه النخبة الوطنية المشغولة بالانتقال، المسؤولة عنه، بما يمكن أن يوفر علاجا لمرض سياسي مقيم.
و مع ذلك، كان الطيب شديد الحماس لأطروحة المشروع السياسي الذي طرحته الحركة الوطنية للتغيير (٢٠١٣)، و مسهما، طويل الباع، في بلورته. أما المشروع فجوهر أطروحته هو التأسيس لمشروع وطني، يتخلص من عبء فساد التجربة الوطنية لنخبة ما بعد الإستقلال، بحثا عن المشتركات الوطنية و تجاوزا لما أسماه البروفيسور التجاني عبد القادر، ثنائيات السياسة السودانية. و ها نحن وجها لوجه مع الثنائيات ذاتها و مع واقع الإنقسام السياسي، و كأن ليس ثمة ما يجمع بين السودانيين إلا الاجتماع على الخلاف و الإختلاف.
مضى الطيب تاركا لنا تحدي أن نكون أو لا نكون. لقد مضت أجيال و أجيال من النخب الوطنية، منذ الإستقلال، تاركة للتاريخ مواريث من ماركات سياسية (Brands) يجمع بينها هدر الفرص و خيبات الأمل و فقدان القدرة على التعلم. إن بين يدي السودانيين و السودانيات فرصة متمثلة في الانتقال السياسي الراهن، إما جعلنا منها اختراقا نتجاوز به تاريخنا من الفشل، أو إلتحقت بما سبق هدرا جديدا للفرص، و الساقية لسه مدورة!!
إن الإنتقال السياسي الذي يعلق عليه حادبون من السودانيين و السودانيات آمالا بأن يكون بمثابة الجسر الذي نعبر به إلى الضفة الأخرى للنهر حيث السودان الذي نشعر بالفخر أننا ننتمي إليه، إنه ليس على ما يرام، ما لا يختلف عليه وطنيان. ضمن مطلوبات أخرى، نحتاج، حتى يكون الانتقال المركبة التي تحملنا إلى سودان أحلامنا، إلى تغيير البنية الذهنية و الأخلاقية للنخبة الوطنية (A changed mind set and a changed moral set) و يلزمنا أن نبحث عن بنية قيادة غائبة و قدرات إدارة عامة نراها متضعضعة. هذا بعض دين في رقابنا لروح فقيدنا الطيب زين العابدين.
اللهم إن الطيب زين العابدين عبدك و ابن عبدك و ابن أمتك. اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، و إن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته.
اللهم باعد بينه و بين خطاياه كما باعدت بين المشرق و المغرب، اللهم نقه من خطاياه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، الله اغسله من خطاياه بالماء و الثلج و البرد. اللهم لا تحرمنا أجره و لا تفتنا بعده.







نسال الله له الرحمة والا نعدم امثاله فهو كان اسلامي التوجه سوداني الهوية مقبل علي الجميع اثري الاسلاميين باراءه كما اسمعهم نقده ولم تاخذه في الله لومة لائم