رأي ومقالات

عمار عباس: أين ذهب الأطباء ؟


أين ذهب الأطباء ؟
هذا السؤال الذي أسمعه مراراً كل يوم، هو في الحقيقة سؤال سهل الإجابة. لكن تلك الإجابة السهلة تصبح كل يوم عصيّة للفهم.
ما حدث لكثير من الأطباء في ولاية الخرطوم منذ إعلان الحالة الأولي بداية شهر مارس هو تزايد الضغوط المتتالية و تعاظم صعوبة بيئة العمل مع إنعدام التشجيع و التفهم للتضحيات التي يقدمونها. كثير من الناس لا يفهم عدم قدرة الطبيب للوصول الي مقر عمله منذ بداية الحظر. خاض الأطباء معاركا ضروسا في أول أيامه في محطات الوقود و قد وُضعوا في مواجهة مباشرة مع الناس، و قد إزدحموا لنيل الوقود بكثير من الهلع و الشراسة و عدم الإيثار. تحتاج لكثير من القوة و العزم لتجاوز ألم الساعات الطويلة في الإنتظار و الشروخ التي نَمَتْ في نفسك من عدم العرفان و غياب التقدير للمهام الجليلة التي تنتظرك لتؤديها. يزيد الألم و الإذلال العلني كلما عرف المواطن القَلِق و “العسكري” المتحكم، كلّما عرف الناس بحقيقة مهنتك. هنا تأخذ المنافسة منحي إهانة بطرح أسئلة مثل : و لماذا تعتقد أنك ستحصل علي وقود لمجرد أنك طبيب؟ و ما علاقة نيلك للوقود بالحظر؟ طبعا فضّل الكثير منهم إخفاء حقيقة أنهم أطباء لأنها إشهارها عاد إليهم بالوبال و الشتائم الموصومة بأنها “للأطباء فقط”.
الأغلبية التي لا تملك سيارات و لم تفتقد الوقود، ظلّت تنتظر “الترحيل” الآتي في وقت ما بين الساعة السادسة و السادسة. يمر عليك الوقت بطيئا و أنت في كامل هندامك منتظرا بصّاً حكوميا قد يأتي أو لا يأتي. لا يمنحك وقتاً و لا يعتذر إليك إن لم يتمكن من الحضور.
إستمرت الجروح تنشأ في قلوب الأطباء تاركةّ
نزيفاً مؤلماً. قطرات من الدم القاني لا تقتلك، لكنها تفتُّ في عضدك ببطء و صمت. ينتهي اليوم الكامل الذي قضيته في محاولة وصول “ناجحة” الي مكان عملك ليأتيك خبر زملاء العمل الذين تخلّفوا بسبب عدم تعاون السائق أو جهله بهم. و لا يماثل حزن الذين وصلوا الي المستشفي و اكتشفوا أنهم- بدون زملائهم – في الحقيقة ليس لهم قيمة. و كما وصل منهم الكثير الي المستشفيات، وقع كثير منهم ضحايا النوم و الإحباط علي مقاعدٍ أمام بيوتهم أو علي سريرٍ قريب من الباب، ملقيً نائماً من تعب الترقب و الإنتظار، بكامل هندامه و حقيبته الطبية و الساندويتشات التي أعدتها الوالدة. الفريق الطبي كقطع الأحجية. يجب أن يكتمل ليعمل. أطباء بلا تمريض، و قابلات بدون بنك الدم، و جرّاحون في غياب التخدير. الدم النازف يترك جروحا تندمل بندوب علي القلب. الفراغ و قضاء الوقت في الجدال مع المرضي و مرافقيهم للإجابة علي سؤال “لماذا الطوارئ مغلقة. أنت طبيب، لماذا لا تستطيع إجراء الجراحة هنا؟ لماذا ترسلني الي مستشفي آخر؟ لماذا لا تستطيع”إعطاء البنج” للمريض و أنت طبيب و تحمل سماعة؟ و ما بين الأسئلة البريئة لمواطنين مرهقين من التجوال، و الأسئلة الغبية لمتحزلقين يرون الطبيب الواقف أمامهم “يحاول الهروب عن القيام بواجبه”، تبدأ وساوس الشيطان في التسرّب إليك، تبدأ أسئلة بالتردد عليك كما يكتبها المساجين واضحة علي جدران السجن : لماذا أنا هنا؟ لماذا “مادونا ليست حبيبتي” ؟ و تبدأ في مهاتفة زميلك : أيكما أفضل، أنت الذي وصلت للمستشفي أم هو الذي سقط من الإعياء ينتظر” الباص الحكومي” المتثاقل. و تبقي قطعتا الأحجية يفصل بينهما نهر النيل كلاهما في كامل الزيّ و الهندام. و المريض يراقب من وراء الأسوار.. لبيت هذا و مستشفي ذلك. فيُساء الظن بالأول أنه “هارب من العمل بينما يبقي في بيته” و بالثاني أنه “هارب من العمل بينما يبقي في المستشفي”. الأول أحسن حالا لأنه سيجد طعاما مهيأ في المنزل. و الثاني أحسن حالا لأنه لن يضطر للوقوف لساعاتٍ في صف بطيء لشراء الخبز. تصير الحاجات البسيطة كالأكل و الشراب معاركاً كالملاحم في ظل المستشفيات الخالية الموحشة. و الشوارع حولها التي كانت تضج بالباعة و” المطاعم”. شبّه لي أحدهم المستشفيات بداية الحظر كأنها صحاري قاحلة من إنعدام الطعام و الشراب. لكن تتفضل عليها الصحراء أحيانا لأن قضاء الحاجة فيها أكثر سهولة و يَسُر.
علي هذا المنحي و بهذا التفصيل، كم تعتقد أني أحتاج من الصفحات و الوقت لأخبرك ماذا فعل الأطباء ليتلآءموا مع الوضع ثم فشلوا و نزفوا. كم معارك خاضوها أنهكت قواهم و كسرت ظهورهم قبل أن يلاقوا عدوهم الذي من أجله جيء بالحظر. إحباط و تعب و سؤال عن الغاية؟ نحن لا نعمل. شيء ما وضع هذه الخطط بدقة متناهية ليمنعنا من العمل. لكن أمام الناس و المجتمع : يبدو الطبيب واقفا في وسط المستشفي، نظيفا نشيطا واضعا سمّاعته علي عنقه. و أمام نفسه : منهاراً متعباً تنقصه قشة ليتحول شعور القُصّة عنده الي بكاء بصوتٍ عالٍ. من أعادني الي سنوات الكلية لأنتصر علي معاركي الصغيرة اليومية؟ كلُّ هذا بدأ قبل أن يطل علينا الفيروس القاتل. بدأت معركتي معه دون عزيمةٍ و لا أملٍ في الإنتصار. ما زالت القُصّة التي تخطط للإنفجار في حلقي، و ما زال زميلي مهندماً معطّرا يُسقطه الإعياء في إنتظار الباص. و ما زالت الأعينُ ترقبني من خلف أسوار المستشفي الشفافة، و لا تدري بقدر النزيف و لا كمية الندوب في دواخلي. كان هذا المشهد قبل أن تبدأ زحام الحالات و الجثث في التوافد الي المستشفي. كان هذه حال طبيبنا الهمام في لحظة الصفر. بعد ساعة أو يوم أو أسبوع، إفتقدنا بعض الزملاء الذي نكأت جراحهم و إمتلأوا بالندوب، سألنا : أين ذهبوا ؟ أين ذهب الأطباء؟ هذا في الحقيقة سؤال سهل الإجابة. لكن الأجابة نفسها عصية الفهم.
لأغراض السهولة، عبّرت بلفظ “طبيب” لكل مقدمي الصحة و العاملين بالمستشفيات.

د. عمار عباس


‫4 تعليقات

  1. للأسف تقاصرت همم شريحة واسعة من الأطباءولم يركز منكم إلا القليل الذين يستحقون ويستحققن كل الود والإحترام عدا ذلك للأسف لقد خذلتم الشعب السوداني…

  2. الله يعينكم يا دكتور
    انا والد اطباء
    ابني و بنتي
    مصرين للعمل بدون راتب تطوعا
    يصرون على العمل و التعرض للعدوى دون معدات حماية كافية
    اشتري لهم البنزين بالجركان من السوق الاسود
    قررت ابنتي الا تستفيد من صفوف بنزين الاطباء لانها جربت مرة واحدة و يمعت الف كلمة فارغة
    مصاريف حيبهم مني كما كانو ايام الدراسة
    بتصل عليهم زملاؤهم و يحكون لهم قصص الاعتداء اللفظي و البدني كل يوم
    اصررت عليهم بالتوقف حرصا على سلامتهم و سلامتنا رغم تعاطفي مع المرضى الذي لم يصل بي حد ان اوافقهم لالقاء النفس للتهلكة
    كلامي لم يقنعهم للتوقف
    اخيرا اقتنعوا
    ابني قال لي. ابي شي واحد اقنعني
    اقرأ يا ابي تعليقات الشعب السوداني كلما حدث اعتداء
    سبعون في المائة فرحون بالاعتداءات و يريدون المزيد
    و الانكى تعليقات بعض عجايز الاطباء البعيدين عن مواقع الاعتداء.. يربطون الاعتداءات بتدهور الخدمة او الاهمال او التقصير و كانما يجدون التبرير للاعتداءات.
    الان توقفوا بحمد الله و يلعبون معي الليدو في البيت.
    و بانتطار نهاية الحظر للسفر للخارج.

  3. لا حول ولا قوه الا بالله طبعا انا طبيب واعلم ما تقوله جيدا ولا يقدر علي تقييم الامر بصوره سليمه الا من كان طبيب او احد اولاده طبيب او اخوه ليدرك كم المعاناه والمعارك الجانبيه لتصل للناس لاداء عمل طويل مرهق خطر علي حياتك لعدم وجود ابسط متطلبات الحمايه والمعينات ومن غير اي تقدير مادي او معنوي بل تتعرض للضرب والاهانه اللفظيه الغريب في الامر انه عندما يتعرض اي احد لاقل اعتداء يجد.التعاطف اما الطبيب فلا و فمفروض ان يعرض نفسه للخطر ويندق ويشتغل حتي يموت طيب والغريبه البلد كلها منهاره هل اندق اي موظف اخر في اي وظيفه ابداا فقط الاطباء كانت النتيجه ان اختفي الاطباء لو عايزين ترفدوهم ارفدوهم ما فارقه اصلا ما لاقي منها شيء اها هل هذا حل

  4. للمعلقة الكريمة.. وريفة
    تقولين ان من صمدوا يستحقون التقدير.. قد تكوني من القلائل الذين اعطوهم التقدير و لو على الكيبورد و لكن في الحقيقة هؤلاء الذين لم ينسحبوا هم من عانوا الاعتداء و الكراهية.. قالوا ليك الاطباء الذين سال دمهم كانوا في بيوتهم او في خارج البلاد ام كانوا ساهرين على انقاذ المرضى في اقسام الطوارئ؟!!!