تحقيقات وتقارير

التنقيب الأهلي .. أمل في غياهب المجهول .. نساء يمكثن في الصحراء ويعملن في تنقية الذهب و وفاة 116 معدناً خلال 2020م


التنقيب الأهلي .. أمل في غياهب المجهول

شركة الموارد المعدنية وفاة 116 معدناً في مناطق التعدين

نساء يمكثن في الصحراء ويعملن في تنقية الذهب.. ووجودهن في مناطق التعدين حقيقة

أردول: صناعة التعدين ستمضي بسقف عالمي.. و700 الف معدن في مناطق التعدين

خبراء: تحول عدد كبير من المزارعين الى منقبين.. وأخشى وقوع كارثة زراعية

 

حمد شاب يافع لم يكمل الثمانية عشر عاماً أراد أن يصبح ثرياً ويحسن من الوضع الاقتصادي لأسرته، خاصة وأن والده توفى قبل سنوات طويلة وظلت أسرته طيلة تلك الفترة تعاني من (الفقر، الجوع، المرض)، لذلك ترك القرية وانتقل الى صحراء الشمالية لعله يفوز بـ( الكنز ) الذي يغير مجرى حياته الى حال أفضل، ويحقق بعض ما يصبو اليه، إلا أنه لم يكن يدرك أن هناك قدراً مؤلماً ينتظره بمجرد ذهابه الى الصحراء، التي يصعب العيش فيها، حيث البرد القارس وغيرها من المؤثرات الطبيعية التي تحدث في تلك البقعة، وعند وصوله الى الصحراء مع أقرانه من المنقبين بدأوا ليلتهم التنقيب بحثاً عن الذهب، بالنزول الى بئر يبلغ طوله أكثر من خمسة وعشرين متراً، وعندما جاء (دور) حمد، وقبل دخوله الى البئر انتابه احساس من الخوف، خاصة وأنه لأول مرة يشرع في مثل هذا العمل إلا أن أقرانه طمأنوه وأكدوا له أن الأمر أكثر من العادي، ونزل حمد البئر والخوف يسيطر عليه إلا أنه بعد دخوله لم يستطع الخروج، بعد أن سقطت على رأسه صخرة وتوفي في الحال ولم يعلم أهله بوفاته إلاّ بعد عشرة أيام نسبة لعدم وجود شبكة اتصال هناك.

 

خبر الشؤم

هذه القصة سردتها لنا الحاجة (كلتوم ) والدة أحد الاطفال المتوفين في مناطق التعدين العشوائي والحزن يخيم عليها منذ رحيل ابنها الأكبر وترك لها عدد ثلاث فتيات بأعمار مختلفة.

 

سموم تتمدد

ولعل كارثة التعدين العشوائي التي طرأت على الشباب قبل فترات طويلة هي أكبر المعيقات التي تسبب التلوث البيئي رغم أنها أزهقت أرواح الكثيرين إلا أنها أصبحت الطريق الوحيد والمختصر ( للثراء) ويعد هذا النوع من التعدين أخطر الظواهر، من حيث تأثيراتها الضارة على البيئة والانسان، خاصة وأن البعض منهم يستخدم الزئبق بصورة خافية لتنقيب الذهب بطريقة عشوائية قد تزهق أرواحهم نتيجة للاستخدامات السالبة، ولا تقتصر تلك الفوضى العارمة في التعدين فحسب بل أصبح الصيادون يستخدمون ( الزرنيخ) في شباكهم لقتل الاسماك وتسهيل عملية صيدها، وربما يؤدي ذلك الى تسرب (الزئبق) الى البحر ويتسبب في تلوث مياهه.

 

آبار (كيري)

يحفر المعدنون التقليديون آباراً قد يصل عمقها الى (100) متر، وهو ما يترتب على ذلك نتائج وخيمة على السلامة منها عدم حفر الآبار بالصور العلمية المتبعة لفتح المناجم مما ينتج عنه حدوث الانهيارات (حالة الانتوف)، بالاضافة الى وجود تشوهات في التربة نتيجة لحفر الآبار والتي غالباً ما تحفر في أعماق بعيدة، وهذا بدوره يؤدي الى الانهيارات التي تسبب وفاة العاملين بالمناجم، بجانب أنها تولد غازات سامة بالمناجم تؤدي لاختناق العاملين الى جانب استخدام المعدنين للنيران والمتفجرات والغاز.

 

نساء في الصحراء

لا تقتصر عمليات تنقيب الذهب على الرجال فحسب بل هناك بعض من النسوة اللاتي يمكثن بالقرب من مناطق التعدين يشاركن الرجال في تنقية الذهب المستخرج من الآبار ويأخذن مقابل ذلك جرامات قليلة من الذهب، وهناك من تعمل في مزاولة عمل (الزلابية والشاي) وأخريات في بيع الاطعمة والرصيد للمنقبين، حسب حديث مريم سليمان التي تمكث بولاية النيل الازرق وكانت تعمل في تنقية الذهب بمناطق التعدين والتي أقرت بتواجد النسوة بكثرة في مناطق التعدين، واصفة الوضع بالعادي في ظل الظروف المعيشية الطاحنة، وأضافت أن التعدين أصبح مصدر رزق سهل لعدد كبير من الأسر التي كانت تعاني ضيق المعيشة، وواصلت حديثها قائلة: رغم المكاسب التي يحققها البعض جراء التنقيب العشوائي إلا أن المخاطر تحف مناطق التعدين من كل الاتجاهات، حيث البرد القارس بالاضافة الى تواجد بعد الامراض المتفشية بين الفصلين مما أدى ذلك الى وجود عدد من حالات الوفيات لأسباب مختلفة من ضمنها انهيار الآبار على المنقبين اثناء عملية التنقيب، وأردفت قائلة (الواحد بكون قاعد كويس لما يجي دورو للتنقيب، ويدخل الحفرة يطلعوهو ميت).

 

ظواهر سالبة

تسللن أربعتهن الى إحد المركبات العامة وهن يهمسن لاكمال باقي حديث يبدو أنهن بدأن فيه قبل الصعود الى المركبة التي كانت تقلنا الى منطقة الحاج يوسف، قالت احداهن لقرينتها انها عائدة لتوها من ولاية الشمالية بعد أن كانت تعمل في تنقية الذهب (غسيل) وانها تحصلت على مبالغ ضخمة جراء هذا العمل إلا أنها اشتكت من البرد القارس وكثرة حوادث القتل والسرقات بمناطق تنقيب الذهب الامر الذي جعلها تعود الى العاصمة لأنها تخشى ان تتعرض الى حوادث السرقات التي تفشت مؤخراً هناك رغم المجهودات الامنية إلا أن هذا لا يمنع من انتشار الظاهرة في قطاع محدد، عندها ادركت تماماً أن ظاهرة تواجد النسوة بالقرب من مناطق التعدين حقيقية.

 

رغم المخاطر

ويروي لنا عبدلله الحسن يعمل في التنقيب بولاية الشمالية معاناتهم في البحث عن الثروة (الذهب) في أنهم يبدأون يومهم في التنقيب منذ صلاة الصبح فيدخلون الى الآبار التي يملكها بعض المعدنين ويقومون بتكسير الأحجار والتنقيب والبحث عن خيوط الذهب ويستمر العمل حتى موعد الافطار، ليخرج بعد ذلك جميع العمال لتناول وجبة الافطار ثم يعودوا مرة أخرى لمواصلة العمل حتى أوقات الظهر ليتواصل العمل مرة أخرى بعد استراحة الظهيرة ، وبعد ذلك يزاولون العمل حتى أوقات متأخرة من الليل باستخدام بطاريات مثبتة على رؤوسهم، وأضاف قائلاً : يتراوح عمال البئر مابين (30-40) فرداً بينما يقدر عمق البئر مابين (50-100) متراً ويبلغ متوسط ما يتم اخراجه من البئر حوالي (8) جوالات في حالة وجود النشاط والانسجام بين العمال، أما في حالة الخمول ينخفض المتوسط من (5-6) جوالات، وبعد تجميع الجوالات لعدة أيام نقوم بأخذها الى طواحين الذهب هناك نقوم بعملية الغسيل وبعدها نقوم بعملية الطحن التي تكلفنا ثلاثين جنيهاً مقابل الجوال الواحد، وأضاف أنهم أحياناً لا يحالفهم الحظ ويخرجوا بجرامات قليلة لا تتعدى الثلاثة جرامات رغم المعاناة التي تواجههم في الحصول على الذهب.

 

تدافع للموت

رغم المخاطر التي تواجه المنقبين في الحصول على الذهب والصعود الى قائمة الاثرياء إلا أن آلاف الشباب يتدافعون للتنقيب غير مبالين، هذا ما ابتدر به أبكر يعقوب احد المنقبين العائدين من ولاية جنوب كردفان الذي قال إن المنطقة مليئة بمعدن الذهب إلا أن المخاطر التي تحف عملية التعدين من ارتفاع أعداد حالات الوفيات كانت تقف حجر عثرة أمام المنقبين، ولكنه سرعان ما تراجع وقال ( (الشغلا حظوظ وأنا اسي كسبت 400 الف جنيه)، وأردف ضاحكاً (دي البداية بس)، معللاً أن المنطقة غنية بالمعادن ومن السهل الحصول على الذهب في تلك البقعة.

 

إجراءات سلامة

ولتقليل المخاطر التي يتعرض لها المعدنون من انهيارات، كانت وزارة المعادن أقدمت على اجراءات لابد من اتباعها قبل البدء في عملية التعدين، وهي الحصول على رخصة التعدين والتقييد بالمواقع المحددة بالرخصة وعدم انتشاره افقياً أو رأسياً، بالاضافة الى وضع المخلفات الصخرية على مقربة من موقع التعدين للاستخدام في عمليات الردم والتسوية فيما بعد، والالتزام بتسوية الاراضي ودفن كل الحفر والآبار والخنادق الى ما كان عليه أو أفضل قبل التعدين، بجانب اتخاذ كافة التدابير اللازمة للحد من الغبار والاضرار التي تنتج عنه، بجانب عدم التعرض للاشعاع و الغازات السامة التي تنتج طبيعياً عبر نتيجة لتفاعل مواد كيميائية، واتخاذ كافة التدابير للمحافظة على الموارد الطبيعية من مياه وغابات ومحميات طبيعية أخرى بالاضافة الى الثروة الحيوانية وغيرها.

 

مخاوف تتجدد

في الأثناء أبدى الخبير الاقتصادي حسين القوني تخوفه من وقوع كارثة تتركز في تقليل الانتاج جراء تحول عدد كبير من المزارعين الى منقبين يبحثون عن الذهب لتغيير الوضع الاقتصادي متجاهلين مهنتهم الرئيسية (الزراعة) رغم أن في الفترات الاخيرة قل إنتاج الذهب نسبة لكثرة العمالة الأمر الذي دعا شركات التعدين لتدارك الوضع وتحسين نسبة استخراج الذهب، واعتبر أن التنقيب عامة ذو عائد مادي مجدي للنقد الاجنبي خاصة وأن الذهب يباع بالدولار، بالاضافة الى أنه أصبح مصدر دخل أساسي لكثير من الأسر السودانية، وقال إن أهم المشاكل التي تواجه التعدين الأهلي هو التهريب الى الخارج لأن هناك تدفع الشركات مبالغ مجزية للمنقبين، وطالب القوني بتضييق الخناق على المهربين ووضع الضوابط اللازمة للحد من التهريب العشوائي.

 

وفاة 116 معدناً خلال 2020

وبالمقابل كشف تقرير للشركة السودانية للموارد المعدنية، عن وفاة 116 معدناً خلال 2020 ، منهم 36 نتيجة انهيار آبار، و 38 نقص أوكسجين داخل الآبار، وترأست والي نهر النيل آمنة المكي، الاجتماع الثاني لمجلس تنسيق التعدين بالولاية بمشاركة وكيل الطاقة محمد يحيى، ومدير الشركة السودانية للموارد المعدنية مبارك أردول، وعدد من الادارات ذات الصلة بالتعدين بوزارة الطاقة والتعدين وبحث اجتماع المجلس الآثار السالبة والموجبة المترتبة على النشاط التعديني بالولاية وسبل تلافي السلبيات. واستمع المجلس لتقارير مفصلة من الشركة السودانية للموارد المعدنية بالولاية، وزارة المالية والاقتصاد بالولاية حول أثر التعدين التقليدي على السلع والخدمات والأوضاع المعيشية المختلفة بالولاية، بالاضافة الى تقرير المجلس الاعلى للبيئة بالولاية حول الآثار الصحية والبيئية المترتبة على التعدين التقليدي.

وأكدت آمنة، أن صحة وخدمات المواطن تمثل الاولوية لحكومتها وطالبت الوزارة الاتحادية بتقليص التصاديق للتعدين حتى نهاية العام وذلك لوضع الترتيبات المتعلقة بضبط النشاط وتوفير الخدمات اللازمة للمعدنين بالأسواق وحصرهم. كما طالبت بتمييز الولاية في العوائد الجليلة لكونها تستضيف أكثر من 60% من النشاط التعديني بالسودان وعدد 700 الف معدن 80% منهم من خارج الولاية، وأشارت الى الضغط الكبير الذي يشكله التعدين الأهلي على خدمات الولاية والسلع الاستراتيجية من دقيق ووقود وغاز الى جانب غلاء الأسعار بالأسواق، وأشارت الى حجم المخاطر الصحية الناتجة عن انتشار الخلاطات والحجر بالأحياء والطرقات والمزارع من جانبه كشف وكيل وزارة الطاقة والتعدين محمد يحيى، عن مراجعات تقوم بها الوزارة للعقودات المبرمة مع الشركات والعمل على تقليص المربعات الممنوحة لتلك الشركات، وأشار الى تعامل وزارته بحزم مع الشركات المخالفة داعياً الولاية الى مراقبة النشاط التعديني وابلاغ الوزارة بأي مخالفات بيئية او فنية او غير مطابقة للمواصفات لشركات الامتياز كاشفاً عن الغاء عقودات 8 شركات، وأكد ضرورة إعمال الولاية للقوانين والتشريعات التي تمنع فوضى التعدين التقليدي.

وأعلن المهندس مبارك أردول عن سياسات جديدة للشركة السودانية تراعي مسألة تطوير الأسواق وتوفير الخدمات اللازمة للمعدن وتهتم لأمر المجتمعات المحلية من خلال تفعيل برامج المسؤولية المجتمعية بالاضافة الى خلق شراكة فاعلة بين الشركة والحكومة في جانب التأمين عبر تكوين قوات مشتركة وتشجيع الشركات على الاتجاه نحو الاستثمار الزراعي وأمن أردول على أهمية توصيل المياه النيلية لأسواق الطواحين.

 

 

تحقيق: عرفة خواجة
صحيفة الجريدة