خواجة إيشير اليهودي .. خواجة لطفي القبطي ..الخرطوم 1966 -1975م

☆ ربما كان خواجة إيشير يعقوب إليون هو اليهودي الوحيد الذي قدر لي أن أراه عن قرب مرارا وتكرارا خلال السنوات من 1966م ولعدة سنوات بعدها.
☆ لم يكن يهوديا من لحم ودم فقط بل كان يحمل كل ملامح اليهود النمطية من وجه عريض وأنف معقوف وعيون كعيون الصقر وجسم مربوع قوي البنية وشعر غزير يغطي ساعديه ويخرج كثيفا من خلال فتحات أنفه وأذنيه وهذا بالذات ما كان يلفت إنتباهي باستمرار وهو يأتي لدكان والدي المرحوم حامد عبد الرحمن.
☆ ربما كان خواجة إيشير في سن الخامسة والسبعين ( 75) وفقا لتقديراتي وأنا صبي مميز وقتها ، وكان إيشير سودانيا خرطوميا يمتلك كامل المربع الذي كان والدي مستأجرا لأحد دكاكينه ، وهذا المربع في الخرطوم اليوم يقع جنوب مجمع الواحة في الطريق نحو مقر رئاسة الجمارك على يدك اليمنى وأنت تتجه جنوبا حيث يقع مطعم البحر الأحمر المشهور.
☆ كان بيت خواجة إيشير في زقاق بالناحية الشمالية من المربع وكان بيتا من طابق واحد وكانت كل دكاكين المربع وقتها من طابق واحد على ما أذكر.
☆ دكان والدي كان يفتح شرقا وبالجهة المقابلة كانت توجد طرمبة موبيل أو توتال وكانت تقع مباشر جنوب مبنى بنك النيلين للتنمية الصناعية الحالي والذي هو جنوب مجمع الواحة والذي كان وقتها زنك الخضار وفي الشارع الذي يقع غرب زنك الخضار ويتجه شمالا نحو برج السلطة القضائية كان موقف تكاسي أم درمان.
☆ كنت أشاهد خواجة إيشير بصورة شبه يومية يأتي ويقف لتحية الوالد وتبادل الأحاديث بصوت فيه نخة : إزيك ياعم حامد !
سألت والدي يوما : خواجة إيشير أكبر منك .. لماذا يناديك بعم حامد ؟
إجتهد والدي في تفسير أنها نوع من الاحترام ولكن بعد فترة تأكد لي أن جميع جيرانه ومعارفه في السوق والصنايعية والدكاكين المجاورة كانوا ينادونه بعم حامد حتى كدت أنا نفسي أن أقع في نفس المطب فناديته يوما بعم حامد لولا أن ذكرتني إبتسامة منه بموقعي من الإعراب.
☆ جمعت خواجة إيشير ووالدي ومجموعة لا أذكر كيف اجتمعوا فكرة شراكة تجارية ، وبسبب تلك الشراكة رأيت خواجة إيشير مع المجموعة في بيت الوالد بأم درمان أكثر من مرة ولكن المرة التي كانت راسخة في ذاكرتي كانت بعد هزيمة 1967م وكانوا جلوسا حول مائدة الغداء ، وكانوا يتحدثون عن الحرب ، ولم يخف خواجة إيشير سعادته بانتصار إسرائيل وشماتته على العرب فتبادل معه الكلام بانفعال عم حسين أحد الشركاء وكان يلوح بيديه في الهواء وكأنه سيحرر فلسطين من حي العباسية.
☆ لا أذكر عبارات عم حسين المنفعلة وهو يردد … والله يا إيشير … والله يا إيشير.. ، لأنني كنت مركزا بصري وسمعي على وجه خواجة إيشير لأسمع وأرى ردة فعله ، لكنه ظل هادئا مبتسما يواصل مطمئنا في تعليقاته وتحدياته ، ووقر في عقلي من لحظتها أن اليهود في السودان لا خوف عليهم ولا حزن وسط الطيبة والتسامح.
☆ وظل خواجة إيشير في حضوره لدكان الوالد إلى أن جاء ذات يوم لم يأخذني والدي معه كالعادة ، وعاد والدي آخر اليوم ليخبرنا وفي وجهه مسحة حزن ظاهر أنه قد حضر مراسم دفن خواجة إيشير في مقبرة اليهود ، وأذكر أن الوالد قال أنه لاحظ أن قبورهم فيها ود اللحد مثل قبورنا.
☆ كان لخواجة إيشير أبناء شباب علمت أنهم وصلوا لإسرائيل باللفة عن طريق أحد الدول الأوروبية ، ومات خواجة إيشير وترك في ذلك المنزل زوجة عجوز رأيتها ذات مرة تشيعه عند خروجه حتى الباب.
☆ خواجة لطفي وأخيه خواجة زكريا :
أما جار والدي من الناحية الشمالية على زاوية المربع فقد كان بار BAR خواجة لطفي ، وكان يتجه شرقا وشمالا ، وفي موقعه اليوم عمارة من عدة طوابق.
☆ مثل خواجة إيشير كان خواجة لطفي يفتتح يومه بالحضور والسلام : صباح الخير ياعم حامد ، وكان أسن من والدي.
وكان خواجة لطفي القبطي فارع الطول رياضي القوام ضامر البطن ذو أنف مستقيم حاد وبارز ووجه يميل للطول وكان يرتدي دائما بنطالا وقميصا محشيا وكلما رأيته كنت أتذكر رئيس فرنسا الجنرال ديجول.
☆ كان خواجة زكريا قصير القامة نحيفا لا يشبه أخيه ، وكان أيضا كثير الحضور لدكان عم حامد وكان يلقي علي السلام مبتسما قائلا : يا سيد كمال … كيف حالك يا سيد كمال ؟ في مداعبة واضحة متكررة.
☆ وكان بار خواجة لطفي يتميز بالمكيف الصحراوي الذي كان يكسبه جوا باردا رطبا ، وكان بعض الصنايعية في تلك المنطقة يأوون خلال نهار رمضان لداخل بار خواجة لطفي حيث يستلقون على بلاطه ويستغرقون في النوم ولم يكن هذا ليحدث لولا أن كان هو يسمح لهم بذلك.
☆ في سنة 1975م توفي خالي عبد الله حامد الأمين في حادث مرور مأساوي فتغيب والدي عن الدكان ولاحظ خواجة لطفي أن جاره عم حامد لم يفتح ذلك اليوم فتفقده وعلم أنه غائب بسبب مأتم إبن عمه وشقيق زوجته.
☆ في يوم المأتم الثاني وكان في حي البوستة وحوالي الساعة العاشرة صباحا بينما أنا جالس داخل سرادق العزاء فوجئت بدخول الأخوين خواجة لطفي وأخيه خواجة زكريا للمأتم ، وما أن شاهده والدي حتى هب واقفا فشاهداه واتجها نحوه ، وفي تلك اللحظات بلغ إنتباهي وتركيزي حده الأقصى وفوجئت بهما وهما يرفعان الفاتحة مع والدي وجلسا معه بعدها فترة من الزمن.
☆ علمت بعد سنوات من أحاديث المجالس وطرائفها أن شيل الفاتحة أمر متكرر بين الأقباط والسودانيين في مآتم الطرفين وأخبرني زميل الغربة معتصم وهو يضحك كيف أنه شقيقه الأصغر أسامة عاد من السفر ففوجئ بمأتم جارتهم القبطية التي شاركت والدته في تربيته وكان يناديها خالتي ، وأندفع أسامة داخل مأتم الأقباط وهو يجهش بالبكاء بأعلى صوته ونادى بصوت تخنقه العبرات : الفااااتحة …
ووقف عشرات الأقباط من أهل المتوفية ومعارفها وكانوا يعرفونه طبعا ورفعوا معه الفاتحة احتراما لعاطفته الإنسانية التي فاضت حزنا.
كمال حامد 👓






