مقالات متنوعة

فرص المراجعة التاريخية على ضوء ثورة ديسمبر والسلام فى السودان


قال البروفيسر السنغالى الشيخ أنتا ديوب، وهو واحد من أهم المؤرخين والمفكرين الثوريين الأفارقة، وقد نال درجة الدكتوراة من جامعة السوربون فى رسالة حول اصول الحضارة الإفريقية السوداء القديمة لوادى النيل وقد اطلق عليها لأهميتها الفائقة “إنجيل التاريخ الافريقى” قال “إننا عندما نتحدث عن أجدادننا السود الذين يعيشون غالباً فى افريقيا السوداء ومساهماتهم فى علوم الرياضيات والفلك وعلوم التقويم عموماً والفنون والأديان والزراعة والنظام الاجتماعي والطب والقراءة وفنون العمارة وهم مهندسو العمارة الأوائل الذين استطاعوا بناء إهرامات يبلغ وزنها أكثر من 6 ملايين طن وما كان لذلك أن يتم لعمال غير مهرة، إننا حينما نقول ذلك لا نتنكر لمساهمات الآخرين كما عليهم أن لا يتنكروا لمساهمات الأفارقة السود وإننا فى ذلك نسعى الى المصالحة الانسانية” بروفيسر أنتا ديوب فى كتابه “أصل الحضارة الافريقية: خرافة أم حقيقة”.

العرب الموجودون فى إفريقيا يفوق عددهم العرب المتواجدين فى آسيا وهى حقيقة جديرة بالتأمل ولا تؤشر الى مؤشر الجغرافيا فحسب بقدر ما تشير على نحو أكثر إلى أهمية التفاعل الثقافى والاجتماعى والانسانى والتاريخى بين العالمين الافريقى والعربى والعلاقة بينهما معضلة من معضلات سودان اليوم فى تناول قضايا البناء الوطنى.

قال ألبيير كامو المثقف والمفكر والمتمرد عن المناهج التقليدية “إن مناهج التفكير التى تدعى قيادة عالمنا بإسم الثورة قد أصبحت فى الحقيقة عقائد جامدة وليست تمرداً أو ثورة”.

إن الثورة الحقيقية هى وحدها من تستطيع هدم المجتمع القديم وبناء مجتمع جديد وفق منظور تاريخى قائم على المراجعة والنظرة النقدية لكامل التاريخ وما تمخض عنه من تناقضات فى بناء المشروع الوطنى، وتظل قضية المواطنة بلا تمييز هى إحدى القضايا الرئيسية التى دون حلها لن نستطيع بناء دولة حديثة وسلام دائم وديمقراطية وتنمية مستدامة فى السودان.

وثورة ديسمبر 2018 المجيدة تشكل فرصة فريدة للمراجعة التاريخية لا سيما وأن خطابها السياسى إتجه نحو الإحتفاء بالتنوع والاعتراف بالآخر وربط قضية الديمقراطية والسلام والعدالة كحزمة واحدة ويمكن القول بثقة ودون تردد إن خطاب الثورة فى جوهره هو خطاب “السودان الجديد” الذى يجعل من المراجعة التاريخية أمراً ضرورياً للوصول للمشروع الوطنى الجديد.

إن المراجعة التاريخية التى نعنيها تقوم على الحقائق والبعد المعرفى والمنظور المتكامل لتاريخنا الوطنى والبحث عن مشروع وطنى ديمقراطى قائم على المواطنة بلا تمييز والاعتراف بالمساهمات التاريخية لجميع أقوام السودان وبالتنوع التاريخى والمعاصر وبالآخرين وحقهم فى أن يكونوا آخرين فى إطار مشروع ديمقراطى منحاز للفقراء والمهمشين وفى مقدمتهم النساء.

حروب السودان الحالية التى بدأت منذ أغسطس 1955 بتوريت فى جنوب السودان واستمرت حتى يومنا هذا أكتوبر 2020 فى ظل أنظمة مننتخبة وشمولية واتفاقيات سلام ثم حرب وثورات تطيح بالشموليات مع استمرار الحرب ولأول مرة فى ثورة ديسمبر تتبدى للعيان إمكانية أن تؤسس الفترة الانتقالية للديمقراطية والسلام معاً وتهديهما كحزمة واحدة وقد استخلصت الحركة الجماهيرية أهمية الربط بين الديمقراطية والسلام والعدالة فى شعارها الفريد “حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب” ويرجع الشعار بجذوره إلى مساهمات حركة الطلبة الجنوبيين فى إطار السودان الموحد وبتأثير قوى من مفاهيم ورؤية السودان الجديد.

فى عام 1988 م. وفى معسكر (نرويجان) بالقرب من مدينة كبويتا بشرق الاستوائية، استدعانى الشهيد الدكتور جون قرنق دى مابيور فى إحدى الامسيات الخريفية وسماء الاستوائية لا يتوقف عن مخاطبة الأرض بالغيث وكنت قد التحقت برئاسته المتحركة قبل مدة وجيزة وأعطانى وثيقة كان قد كتبها عشية اتفاق أديس أبابا فى مارس 1972 معترضاً على ذلك الاتفاق وقد أورد حيثيات دقيقة تدعم إعتراضه مما أغضب جوزيف لاقو قائد الانيانيا الاولى وجعله يطلب من جعفر نميرى عدم إستيعاب جون قرنق فى القوات المسلحة، وأنه إذا إستوعبه سيكون ذلك مجازفة منه، وذكر لى دكتور قرنق أنه قد فقد هذه الوثيقة منذ سنوات ولكن صديقه البروفيسر دومنيك أكيج محمد أستاذ الهندسة فى جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة الامريكية هو من إحتفظ بها وأرسلها له مجدداً، ثم عرج على منظوره التاريخى للقضية السودانية ولموضوعة “السودانوية” واستشهد بالبروفيسر والمفكر السنغالى الشيخ أنتا ديوب وكانت تلك هى المرة الاولى التى تعرفت فيها على مساهمات الشيخ أنتا ديوب ذات الصلة الوثيقة بالتاريخ السودانى. ولاحقاً فى القاهرة التقيت الدكتور الراحل محى الدين صابر الذى عاصر البروفيسر أنتا ديوب فى جامعة السوربون وقد أهدانى إحدى مجلدات الشيخ أنتا ديوب وعلى غير عادة الصورة المرسومة لمحى الدين صابر فى مخيلة الكثيرين حول إهتماماته فان الدكتوراة التى نالها كان موضوعها عن قبيلة الزاندى بجنوب السودان. إن المراجعة التاريخية تستدعى من الاكاديميين/ات السودانيين/ات الحفر والنحت فى التاريخ السودانى والعلوم الانسانية للمجتمعات السودانية مما يجعل منظورنا السياسي مستنداً على المعرفة بتاريخنا ومجتمعنا.

ياسر ع عرمان

صحيفة التغيير


تعليق واحد