جريدة بريطانية :شرق السودان والمصالح الجيوسياسية للخرطوم والرياض
ظل إقليم شرق السودان على مدى سنة ونصف السنة تقريباً يشهد موجات متقطعة من الاقتتال الأهلي في مدنه الخمس، بورتسودان، وكسلا، وخشم القربة، وحلفا، والقضارف، عقب الثورة الشعبية في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أطاحت النظام الانقلابي للإخوان المسلمين، وتم بموجبها عزل الجنرال عمر البشير.
الطبيعة الجيوسياسية للإقليم على البحر الأحمر والثروات المعدنية التي يزخر بها، إلى جانب الوضع الاقتصادي الهش لمكونات الإقليم السكانية والتخلف والإهمال الذي ظل يضرب الإقليم عقوداً طويلة من قبل حكومات الخرطوم المتعاقبة، كل ذلك سيكون بمثابة عناصر قابلة للتفاعل السلبي عبر موجات فوضى محتملة تنعكس على الواقع الجيوسياسي للإقليم.
الاقتصاد الهش والتخلف والإهمال عناصر قابلة للتفاعل السلبي عبر موجات فوضى محتملة تنعكس على واقع الإقليم
فمن حيث أمن البحر الأحمر، الذي يشكل ضمانة مهمة لاستقرار الدول المُشاطئة لسواحله، مثل السعودية، والسودان، ومصر، وغيرها، سيكون لتداعيات الفوضى في إقليم شرق السودان، انعكاسات خطيرة على الحركة الملاحية هناك، ما يدفع نحو إيلاء الحرص البالغ للتعاون البيني لتلك الدول. وفي هذا الصدد فإن حرص السعودية على الأمن الاستراتيجي لشرق السودان يتقاطع مع أمنها؛ إذ إن المملكة تمثل جواراً بحرياً للسودان عبر ساحلي البحر الأحمر.
طبيعة التدخلات الجيوسياسية، وفق هذه الشروط التي يعكسها حال الهشاشة في المكونات الديموغرافية لشرق السودان، وهي شروط جاذبة لتدخل القوى الخارجية، قد تُعد شروطاً مثاليةً للاستثمار السلبي في الإقليم والعبث به، ما يتطلب الحذر في توخي وضمان المصالح المشتركة بالدرجة الأولى للبلدين العربيين الشقيقين، السعودية والسودان. ووفق هذه المصلحة، فإنه من الأهمية بمكان أن يكون هناك تعاون وثيق بين الحكومة السعودية والحكومة الانتقالية في السودان.
خطورة الفراغ
السياسة مثل الطبيعة لا تقبل الفراغ، لهذا فإن خذلان شرق السودان وتركه لتفاعلاته السلبية السائبة التي تنشط فيها من الداخل قوى مخربة، وتتحفز للاستثمار في تناقضاته قوى خارجية مترقبة، وسط أزمة اقتصادية طاحنة يمر بها السودان نتيجة قرارات دولية عديدة طالت مجازفات نظام الإخوان المسلمين السابق بقيادة البشير، مثل وضع اسم السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب. كل ذلك يجعل من احتمال انفجار التناقضات في شرق السودان احتمالاً وارداً. ومتى ما انفجرت تناقضات شرق السودان ووصلت إلى نقطة اللا عودة – لا سمح الله – فسيكون من العسير احتواء الفوضى، وإعادة الأوضاع إلى مربع الاستقرار والسلم الأهلي.
ووفق هذه الاحتمالات التي تتسارع وتيرتها على وقع التحولات التي تجري في شرق السودان (لا سيما أن شرق السودان هو أكثر إقليم تم فيه تسييس القبائل من قبل النظام السابق للإخوان المسلمين على مدى 30 سنة، وهو تسييس قابل للاستقطاب والانخراط في الفوضى عبر الأجسام القبائلية التي تنشط فيه سياسياً)، فإن السعي الحثيث بين السعودية والسودان من ناحية، وبقية الدول المشاطئة للبحر الأحمر من ناحية ثانية، إلى دعم كل ما يحفظ للإقليم أمنه وسلامه، ويحفظ تالياً أمن البحر الأحمر، سيكون ضرورياً؛ ذلك أن ردود الفعل التي يعبر عنها ناشطون محليون في شرق السودان، على قرارات الحكومة الانتقالية بشأن إدارة الإقليم، ومن ضمنها إعاقة خطوط الملاحة الساحلية في مداخل خط الموانئ السودانية، لا يشكل خطراً محتملاً ووسيلة ضغط على حكومة الخرطوم فحسب، بل يشكل كذلك خطراً على الملاحة والأمن في البحر الأحمر.
استقرار مفقود
مع إقالة الحكومة الانتقالية في الخرطوم لوالي ولاية كسلا صالح عمار قبل أكثر من أسبوعين، اندلعت تظاهرات واحتجاجات لأنصاره، نجم عنها حوادث قتل في مدن سواكن وكسلا وبورتسودان.
ولا يبدو في الأفق إمكانية لاستقرار الإقليم ما لم تكن هناك إرادة مشتركة لتعزيز السلم الأهلي بين مكوناته. وفي ظل التدخلات الخارجية السلبية الهادفة إلى التأثير على أمن الإقليم، فإنه من واجب أصحاب المصلحة الاستراتيجية في تأمين البحر الأحمر وإقليم شرق السودان، العمل على ما يضمن أمن الإقليم وسلامته من خلال التعاون المشترك.
في شرق السودان، وعلى مستوى التفاعلات الداخلية للأزمة، من المهم للمراقبين معرفة أولاً أن الكيانات السياسية البجاوية التي تنشط اليوم في شرق السودان كـ”المجلس الأعلى لنظارات البجا”، و”الآلية التنسيقية لعمد قبائل البني عامر”، هي في حقيقتها كيانات قبائلية، وليست سياسية. كما أن هذا الواقع الذي تمارس فيه القبائل أعمال السياسة اليوم، هو واقع صنعه نظام الإخوان المسلمين على مدى 30 سنة، بحيث أصبحت تلك الكيانات هي المنظور الوحيد لتعريف السياسة وممارستها في منظور كثيرين بشرق السودان. وهذا يعني وفق هذه الحقيقة أن أي حدث أو موقف أو تجمع من قبل هذه الكيانات القبائلية السياسية سينتج عنه بالضرورة أضرار في المجال العام للمجتمع؛ لأن المكونات التي تمارس السياسة بفهم القبيلة، ستكون نتائج مواقفها وتصرفاتها بعيدة عن السياسة، وبالتالي ستكون الأزمات المتكررة والأفق المسدود هو النتيجة الحصرية لذلك. وفي نهاية المطاف سيؤدي التراكم الكبير لنتائج الأزمات المتكررة والأفق المسدود عبر هذه الممارسات إلى مصير واحد هو الحرب الأهلية (لا سمح الله).
تسييس القبائل
إن أي قراءة أو محاولة لفهم التفاعلات والأحداث التي تجري اليوم في ساحة الشأن العام بشرق السودان وتداعيتها الأمنية، بعيداً عن هذه الخلفية التي تركها نظام الإنقاذ البائد، لن تؤدي إلى أي نتائج موضوعية أو حقيقية للفهم.
وكان واضحاً أنه نتيجةً لهذا المنظور المنحرف، الذي كرَّسه نظام البشير عبر تسييس القبائل والزج بها في السياسة سيكون بعد الثورة هو المحرك الرئيس للأزمات الخطيرة التي يمر بها شرق السودان اليوم. ولهذا نلاحظ أن كلاً من “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، و”الآلية التنسيقية لعمد قبائل البني عامر” تمثلان امتداداً لما كرَّسه نظام البشير على مدى 30 سنة. ولأن هذه الكيانات كيانات قبائلية بذاتها، وبحكم محدودية منظورها القبائلي للسياسة، فستكون ذات قابلية للاستثمار في تناقضاتها من قبل دُهاة سياسيي النظام الساقط (نظام البشير)، ومن قبل جهاز الأمن. كما ستكون هذه الكيانات القبائلية أيضاً هي المجال “الأفضل” لكل من يريد تنفيذ أجندات خارجية، ويبدو ذلك اليوم جلياً لكل من يراقب مجريات الأحداث وتداعياتها في شرق السودان.
في مثل هذا الواقع الذي يكون فيه محتوى خطاب هذه الكيانات القبائلية محتوى غير سياسي بالضرورة (أي خطاب ذو محتوى شعبوي ويفكر بالضرورة وفق منظوره القبائلي، الذي يظنه منظوراً سياسياً)؛ إذ إن من خصائص التفكير القبائلي أنه تفكير يرى الأشياء من خلال الذات القبائلية، حتى ولو استخدم في ذلك شعارات سياسية كمفهوم الدولة والوطن. فهو بطبيعة الحال خطاب قبائلي، سيكون لمفهوم الوطن فيه تصورات أخرى محدودة، ولا علاقة لها بمفهوم المواطنة واستحقاقها.
الاحتقان والاستقطاب
اليوم، في ظل هذه الأوضاع السائلة والممارسات السياسية المعطوبة لكل من “الآلية التنسيقية لعمد قبائل بني عامر”، و”المجلس الأعلى لنظارات البجا”، يتوقع أن الاحتقان السياسي لتلك الأجسام سيزيد من حالة الاستقطاب التي يعبر عنها خطاب للكراهية والعنصرية والشحن المتبادل. وبطبيعة الحال فإن النتائج الحصرية لمثل تلك الممارسات ستُفضي إلى حالات خطيرة من تهديد السلم الأهلي في منطقة جيوسياسية لن يكون اللعب بمصيرها والعبث بمكانتها سوى “لعب بالبيضة والحجر” إذا ترك أمرها ومصيرها لتلك الكيانات، التي كرَّستها 30 سنة من ممارسات نظام الإخوان المسلمين. وكما هو معلوم فإن الانقسام الذي تحدثه الممارسات السياسية لجماعة الإخوان يُعد من أخطر الانقسامات، لأنه يعكس انقساماً عمودياً للمجتمع ويستثمر في ذلك كل التناقضات، كما بدا واضحاً اليوم الاحتقان الذي يعيشه شرق السودان.
أوضاع جيوسياسية
في ظل ظروف حالكة كهذه، سيكون من الأهمية بمكان أن تلعب المملكة العربية السعودية، باعتبارها دولة مجاورة للسودان عبر حدوده المائية في البحر الأحمر، الدور الأكبر في التعاون مع الخرطوم، بما يضمن خدمة مصلحتهما الاستراتيجية المشتركة في منطقة جيوسياسية حساسة مثل شرق السودان، وذلك عبر بذل الجهود التي تساعد على دعم السلم المحلي وقطع الطريق على الاقتتال الأهلي بما يضمن للمملكة في الوقت ذاته حمايةً غير مباشرة لمصالحها الجيوسياسية؛ كونها الدولة الوحيدة التي تملك حدوداً بحريةً مع السودان.
ولطالما لعبت السعودية أدواراً تاريخية عظيمة في خدمة القضايا العربية وقضايا الأمن والسلم العربيين، أبرزها الدور العظيم الذي لعبته المملكة في وقف الحرب الأهلية في لبنان بعدما دامت لـ15 سنة عبر مؤتمر الطائف الذي جمع كل المكونات الوطنية اللبنانية، ثم اتفاق الطائف في عام 1990 الذي استعاد به لبنان أمنه واستقراره.
وظلت الرياض في سياساتها الخارجية داعمةً لكل إجماع الوطني في كل دولة عربية تعاني مشكلات مستعصية، ومن ثم كان دعمها جوهرياً لكل ما يسهل خيارات ذلك الاجماع للتحقق على أرض الواقع كحلول ناجعة، عبر تذليل كل العقبات. لهذا، فإن الدور السعودي، لا سيما بعد رفع اسم السودان من قائمة الدولة الراعية للإرهاب (وكان للمملكة دور مهم في هذا الملف)، سيظل هو الأهم في دعم الخرطوم، خصوصاً في ما يتصل بالمصالح الجيوسياسية المشتركة بين البلدين، كأمن البحر الأحمر، ودعم الاستقرار في شرق السودان.
وبما أن هناك اليوم توافق على تشكيل مؤتمر جامع لأهل شرق السودان بين كل من الحكومة والجبهة الثورية، من ضمن مخرجات اتفاقية جوبا للسلام، الذي وقع مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإن وضع السودان بعد التغيير الجديد الذي سيعود به إلى المنظومة الدولية، سيكون في حاجة أكثر إلى استئناف المملكة لجهودها دعماً للسودان بما يحفظ المصالح الاستراتيجية المشتركة.
لقد بدا واضحاً اليوم أن اشتباك العوامل الداخلية والخارجية في صناعة الأحداث سلباً أو إيجاباً يقتضي من الدول ذات المصلحة المشتركة في الأمن الاستراتيجي للبحر الأحمر، العمل على قطع الطريق على كل من يحاول الإضرار بتلك المصالح المشتركة للبلدين، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة.
محمد جميل أحمد – صحيفة السوداني