تحقيقات وتقارير

(مَعايِش النَّاس) .. من السيئ إلى الأسوأ !!


لم يكُنْ أكثر المتشائمين مِمن خرجوا على نظام البشير بكل فساده وإفساده وخرابه لهذا البلد الغنيُّ لدرجة التُخمة بموارده؛ يحلم في منامه أن يصل سعر الرغيفة (التجارية) إلى (10) جنيهات؛ بزيادة بلغت (1000%) عمَّا تركها نظام الإنقاذ الهالك، وأن تبلغ فاتورة المواصلات للمواطن في اليوم الواحد قُرابة الـ(500) جنيه؛ بعد أن كانت لا تصل إلى (50) جنيهاً مهما بلغت تنقُّلات الراكب، وأن يقفز رطل اللبن من (10) جنيهات إلى (80) جنيهاً، وفي بعض المناطق (100) جنيه بزيادة (1000%)، والقائمة تطول..!!

أما حكومة شهداء ثورة ديسمبر المجيدة فقد اكتفت بـ(الفُرجة) على شعبها الذي (شًبِع) مُوتاً وهو على قيد الحياة، في سادية – ربما – تحسدها عليها حكومة البشير بكلِّ سوءاتها.

( شِنْ نَسَوْ ..؟؟!!)
في أحد صباحات الأيام الفائتة؛ لا أدري هل ساقني حُسن سُوء حظي، أم سوء حُسن حظي، إلى السوق الشعبي أم درمان، وهُناك كُنَّا – مجموعة من الناس – جلوساً، تحت ظل محل تجاري، مُجاور لـ( مطعم)، وبينما كان حديث الحاضرين منصبَّاً حول (جنون) الأسعار، وكلٌ يبكي ( ليلاه)، فهناك من أقسم بأنه أصبح يشتري في اليوم الواحد رغيفاً بـ(400) جنيه، وإن كُنتَ من رُوَّاد مقولة: (من نسي قديمو تاه)؛ جاز لك أن تقول أربعمائة ألف من الجنيهات، هذا لأُسرة واحدة – حسب زعم من أقسم-، وهناك من قال إنه ذاق (الويل وسهر الليل) بسبب لبن الحليب لأطفاله بعد أن أسقط فواتير التفاح والعنب والباسطة وغيرها. وثالثٌ قال : (على الطلاق نِحنا بيتنا تلاتة يوم ما ولَّعت فيهو نار وأخشى ما أخشاه أن أولِّعها في جسدي كما فعل التونسي بو عزيزي عند انطلاق شرارة ثورات الربيع العربي عام 2011م). وفي هذا (الفلك) المُرعِب كانت تدور ( الحكاوي والشكاوي). أما أنا فقد كُنتُ أتابع حديث (الرَّجالة) بـ( نصف) مُخ لأنَّ النصف الآخر من ذهني كان شارداً نحو (المطعم) المُجاور، حيث لفت انتباهي منظر ثلاث من النسوة وقفن أمام بوابة المطعم، فخرج إليهن شاب يعمل بالمطعم (جرسون)، سلَّم كل واحدة منهن (كيس) بلاستيك وبالمقابل استلم مبلغاً من المال. هذا المنظر جعل (فيروس) الفضول الذي ورَّثتنا له الصحافة، يغلي كالمرجل بدواخلي، سألتُ من كان يجلس بجواري، وهو من المُداومين على الجلوس بهذا المكان، عما رأيته من منظر فقال لي: ( دِي كَرتَة !!)، وقبل أن أُبادره بسؤالٍ ثانٍ يفسِّر ليَّ الأول، راح الرَّجُل ينتاشني بسهامه، وكأنني أنا المُتسبِّب في (بلاوي) الناس، حيث خاطبني بقوله: (والله يا أستاذ إنتوا قاعدين ساي.. الناس بقت بتأكُل بقايا طعام بعضها.. والنسوان ديل خير دليل على كلامي.. فَهِنْ بِيجَنْ المطعم دا عشان يَشْتَرنْ باقي أكل الناس.. أصحاب المطاعم ببيعوا ليهن الكيس بخمسين ألفاً.. يعني الكيس البتسأل عَنُّو دا فيهو بواقي رغيف وفول و”عُضام” وما شابه ذلك.. بدل ما يودّهو الكوشة؛ ناس المطاعم بقوا يبيعوه للمساكين ديل بالقروش عشان يأكِّلوه أولادهم.. وإنتوا تقولوا نحنا بنكتب.. والله بتكتبوا شنو نحنا ماعارفين)..

أعترف بأنني تجرَّعتُ كلمات الرَّجُل كالعلقم؛ لكن لم ينصب تفكيري – وقتذاك- إلا في اللاحق بالنسوة اللائي حملن (الأكياس) – إياها- .. بالفعل وصلتهن وبكل استحياء سألتهن، فردَّتْ عليَّ إحداهن وكأنها الناطق الرسمي باسم المجموعة، قائلة: (والله يا ولدي كُنا بنعتمد على “الكمُّونية” والرغيف لكن ديل ذاتن إتعزَّزن علينا.. نحنا أرامل وبنربِّي في أيتام).. قلت لها: لكن الأكل دا يمكن يكون مُلوَّث بأي شيء ويتسبب في مرض أطفالكن، وربما موتهم.. فردَّت على استفساري بسؤال يشبه حديث الفلاسفة، حيث قالت: ( لكن يا ولدي نعمل شنو؟!.. أحسن أطفالنا يموتوا شبعانين بالأكل الملوَّث دا .. ولَّا يموتوا يصرخوا من الجوع؟؟).
هذه الإجابة الممزوجة بالحسرة والحِكمة في آنٍ واحد؛ كانت كفيلة بأن أنسحب من محاورة النسوة.. ( لأنُّو أنا زُول دمعتي قريبة).

معيشة ضنكا
ويقول المواطن “حاتم خليل” لـ(السوداني) إنَّ الفرق بين حكومة الإنقاذ التي أراحنا الله منها، وبين هذه الحكومة، إن الأولى كانت – على الأقل – تستحي عندما تعتزم زيادة أسعار السلع، أما حكومة الثورة فإنها تضاعف الأسعار عشرات المرات دون أن يطرف لها جفن، وخير شاهد الوقود الذي وجدت جالونه بـ(28) جنيهاً فرفعته إلى (540) جنيهاً، هذا التحدي لم تفعله الإنقاذ رغم جبروتها وقمعها ودكتاتوريتها.. وبالتالي لم يكن أمامنا خيار سوى الفطور بـ (موية فول) والعشاء بنُسخة مُكرَّرة من الفطور، أما الغداء فقد تم مسحه بـ( إستيكة) من قاموس الوجبات ليس لي وحدي، بل للسواد الأعظم من السودانيين، رغم أن (صينية) الغداء كانت تعني الكثير للأُسر السودانية فهى أشبه بالبرلمانات التي تُناقش فيها كل القضايا.

ومن ثمَّ عرَّج الرَّجُل إلى تحليل الزيادات التي ظلت تطرأ على أسعار السلع، بمُعدَّل كل ساعة، فقال: إن الفرق هنا أيضاً بين (حكومة الكيزان) وحكومة الثورة أن التجار في عهد الأولى كانوا (يستحون) عند زيادة أسعار سلعهم، أما الآن فقد استمرأوا صمت الحكومة وأصبحوا يُضاعفون أسعارهم بلا خجل وكأنَّ البلد بلا حكومة.

مقارنات صادمة
الحديث عن (معايش الناس)، يجعل الذهاب للأسواق أمرٌ لا مناص منه، ولذا كان لزاماً علينا أن نتجوَّل في أسواق ولاية الخرطوم، أما المُحصِّلة فكانت ارتفاعا جنونيا في أسعار السلع والمواد التموينية يقابله ركود أكثر في حركة البيع.. وقفتُ أمام ” الحسن عباس” تاجر جُملة بسوق بحري، وبعد الاسئلة خرجتُ منه بالآتي: بالنسبة للألبان فقد ارتفع سعر العبوة الكبيرة (اثنان كيلو ورُبُع) إلى (3500) جنيه، علماً بأنه حتى أيام المظاهرات التي أطاحت بنظام البشير لم يصل سعرها (700) جنيه. أما الطحنية فقد بلغ سعر الجردل من إنتاج حلويات سعد زنة (15) كيلو 9000 جنيه بدلا عن 1800 جنيه في العهد البائد، صلصة البستان فارتفع سعر العلبة الواحدة إلى (250) جنيهاً، في حين أن سعرها لم يصل حتى سقوط البشير (30) جنيهاً. أما بالنسبة للدقيق فقد ارتفع سعر البكتة عشرة كيلو إلى (1500) جنيه، وقد كان حتى قيام المجلس العسكري بعد الثورة (100) جنيه فقط بواقع عشرة جنيهات للكيس الواحد، اما أكبر زيادة في أسعار السلع الاستهلاكية فقد كانت من نصيب الزيوت حيث ارتفع سعر الجركانة (36) رطلا من زيت السمسم إلى 12000جنيه، رغم أن النظام السابق تركها في (1100) جنيه، بمعنى أن الزيادة فاقت الـ(1000%)، أما زيوت الطهي (التحمير) فقد وصل سعر الكرستال الكبير زنة (4) وربع لتر (1,450) جنيه، علماً بأن سعرها حتى موعد اندلاع الثورة لم يزد عن الـ(250) جنيها.

بعد هذه ( السياحة) الطويلة في عالم الأسعار سألتُ التاجر ” الحسن عباس” عن القوة الشرائية: فأجابني بأنها (نزلت) إلى الحضيض والدليل أنه أفسح لي هذه المدة الزمنية الطويلة لكي يجيب عن أسئلتي.. وأضاف بأن التجار أكثر الناس تضرُّراً من هذه الزيادات لأنها تؤدي إلى العزوف عن الشراء علماً بأنهم يعتمدون في أرباحهم الهامشية جداً على البيع المتواصل.

الحُرَّية والتغيِّير تتبرَّأ
عضو اللجنة الاقتصادية بقوى الحرية والتغيير د. صدقي كبلو، أرجع أسباب زيادة الأسعار والسلع في حكومة الثورة والتي قاربت الـ (1000٪) برغم خروج الشارع لتغييرها في العهد البائد، إلى تحكُّم الطُفيلية الإسلاموية وسيطرتها على الأسواق حتى يوم الناس هذا، ما أدى إلى المضاربات وتصاعد سعر النقد الأجنبي الذي انعكس على بقية السلع والمستهلكات اليومية، وقال كبلو في حديثه لـ(السوداني)، أمس، إنَّ ضعف الحكومة الحالية تجلَّى في تسليمها لصادرات الذهب، والحبوب الزيتية والمواشي لتلك الطفيلية المذكورة آنفاً على الرغم من أنها تُعتبر ألدَّ أعداء ثورة ديسمبر المجيدة فكانت النتيجة الحتمية أن قامت (الأولى) بغرس (سكاكينها) في ظهر (الثانية) بعدم دخول عائد الصادرات لبنك السودان وتحويله للبنوك التجارية والمضاربة خارجياً، ونوَّه إلى أن صندوق النقد الدولي في تقريره في الأسبوع المنصرم قيّم سياسة وإجراءات الحكومة الحالية بالصعبة للغاية ولا تتناسب مع شعبها الأمر الذي يفقدها شعبيتها، ويضر بالمرحلة الانتقالية، وأشار إلى أن الإصلاح الاقتصادي للحكومة بُنيَ على سياسات خاطئة أفقدت الحكومة بوصلتها بعدم سماعها لمستشاريها، وأن اللجنة الاقتصادية بالحرية والتغيير قدمت كل ما في وسعها من خطط وبرامج وحلول لإصلاح الاقتصاد لكن الحكومة لم تعر تلك الخطط أيِّ اهتمام.

تهريب موارد
من ناحيته قال الخبير الاقتصادي عبدالله الرمادي، إنَّ التهريب هو المُتسبِّب الأول في الضائقة المعيشية التي يعاني منها الناس الآن، وأضاف الرمادي أن جُلَّ مواردنا يتم تهريبها بداية من المنتجات المحلية الذهب، السكر، الدقيق، وصولاً إلى المستوردة من الوقود، والأدوية. وشدَّد أن الحكومة ينبغي عليها بداية مشوارها بإيقاف نزيف التهريب لمعافاة جسدها الهزيل قبل وضع أي حلول أخرى، وكشف أن إنتاج الذهب الأهلي فقط يبلغ (200) طن مايعادل (10) مليارات دولار، وأن صادرات الثروة الحيوانية تعادل (4) مليارات دولار، وصادرات الزراعة تعادل (5) مليارات دولار، وأكد أن احتياجات الدولة حسب آخر موازنة بلغت (9) مليارات دولار، ما يعني أن الفائض المتبقي للحكومة إذا تم ترشيده يبلغ (10) مليارات دولار.أا

تحقيق : ياســـــر الكُــردي
صحيفة السوداني


‫2 تعليقات

  1. يستاهلوا البحصل دا.. لانكم شعب مباراه ساي اي جربوع عايزين تشموا وراه

    قال تسقط بس الا في البلاوي سقطوا..