رأي ومقالات

دكتور عثمان أبوزيد يروي تجربته مع كورونا

كورونا: رأي العين
بقلم: د. عثمان أبوزيد
الثلاثاء 17 نوفمبر:
صليت المغرب في مسجد بالخرطوم. لعجبي الشديد لم أرَ واحدًا من المصلين يضع كمامة. طويت كمامتي ووضعتها في جيبي… بل الناس لم يلتزموا التباعد الجسدي الذي اعتدنا عليه في مساجد السعودية منذ (عُدنا بحذر) من الحجر المنزلي الطويل.
كنت وصلت إلى الخرطوم في إجازتي التي بدأت مع هذه الموجة الثانية من تفشِّي الجائحة. عمومًا الوباء لم يخصّ مكانًا بعينه، لكن اتساع انتشاره وتأثيره يرتبط بسلوك الناس ونمط حياتهم.
السبت 21 نوفمبر
قرأت مقالاً لزميلنا كمال حامد في إحدى صحف الخرطوم يعدد أسماء المتوفين في وباء كورونا من القطاع الصحفي والرياضي والفني. يا الله! هذا عدد كبير.
الثلاثاء 24 نوفمبر
فجعت هذا الصباح بخبر وفاة أستاذنا الدكتور عبد الله حسن زروق. ألمَّ به هذا المرض ولم يمهله طويلا. قضى زروق الأشهر الأخيرة في حياته منقطعًا لكتابه: مدخل إلى الفلسفة، وكان كلفني بالتحرير النهائي للكتاب. وظل يستعجلني لإنجازه حتى رأى الكتاب النور في الخرطوم.
كنت واضعًا في برنامج إجازتي زيارة الأستاذ زروق، وقد مضى وقت طويل منذ آخر لقاء معه.
في مساء هذا اليوم، طلب حزب الأمة التضرع من أجل الإمام الصادق المهدي الذي سافر مستشفيًا بدولة الإمارات العربية المتحدة.
الخميس 26 نوفمبر
واصلت مع شقيقي اللواء أحمد مشاوير طويلة لزيارة الأقارب، وتقديم العزاء للمتوفين طوال سنتين غبتهما عن البلد. وهذا طقس سوداني لا يمكنك الفكاك من الالتزام به مهما كانت الظروف. يقول السودانيون: “البكا بجيب زولو لي حولو”، أي أن واجب العزاء يأتي بصاحبه حتى ولو حال الحول!
السبت 28 نوفمبر
اشتريت البطيخة بألف جنيه، وكيلو اللحم بألف جنيه، وحلقت شعري بثلاثمئة جنيه. لكن ما دخل البطيخ واللحم بموضوعنا؟
لما سألت عن عدم التزام الناس بلبس الكمامة؛ قيل لي: الكمامة الواحدة بخمسين جنيهًا!
وتستطيع أن تقدِّر بعد ذلك أسعار دواء كورونا وتكلفة العلاج إن احتجت إلى مستشفى ووجدته. أما فحص كورونا فهو يكلف 13 ألف جنيه. ومع الغلاء الفاحش يصعب على الناس حصولهم على التغذية المناسبة.
الاثنين 30 نوفمبر
جولة أخرى مع شقيقي اللواء أحمد لمواصلة الأرحام.
لقيت عرَضًا في أثناء جولتنا الصديق الدكتور اسحق محمود. وكان اسحق قد كتب في أول ظهور وباء كورونا بعض الأبيات في صفحته بفيسبوك، على طريقته في المداعبة بالشعر، ويقول:
عشان مرض موهوم
قالولنا في الخرطوم
أقعد دوام في البيت
ما تمشي برا تحوم
وتصلي جوا الدار
جماعة بالحرُّوم
كورونا ما بترحم
تقتل كتير بالكوم
أنا ربي خالق الكون
رحمن رحيم قيوم
وانا ما بخاف غيره
أصله الأجل مقسوم
ولكل ميت يوم
ورددت على اسحق بالتالي:
هو ما مرض موهوم
وهو ما (حمار كلتوم)
شفناه عند القوم
أوهان وفرس وروم
اسحق أخوي لا تحوم
وخليك في بيتك دوم
كتر من اكل التوم
وتجنب المزحوم
قدر الله فرضه لزوم
ما هو (تيوب) و(كروم)
والواحد القيوم
ينجيك من المعلوم (انتهى).
مع المساء بدأت أشعر بما يشبه الحساسية في أنفي. قلت: لعلها مبادئ نزلة، ولا بأس إن شاء الله فإني أخذت تطعيم الانفلونزا الموسمية قبل ثلاثة أسابيع.
الثلاثاء 1 ديسمبر
بقيت بالمنزل مع شعور بسخونة في الجسم لا ترقى لدرجة الحمى، مع رشح بسيط، ولا يوجد احتقان في الحلق.
يزورني أصدقاء في الأمسيات وأستقبلهم مع الاحترازات الصحية اللازمة. ورأيت أن أمتنع عن الصلوات في المسجد…
حدثني صديق وهو إمام مسجد، إنه طلب من المصلين التباعد الجسدي في الصفوف، ولزوم لبس الكمامة. فانبرى له من حرض المصلين بـ (الثورة) عليه، وخلعه والإتيان بإمام جديد!
الخميس 3 ديسمبر
الرشح الخفيف توقف. أشعر بصدري ثقيلاً مع كحة خفيفة… إنها نزلة بسيطة. لا يمكن أن يكون مرض كورونا بهذه الأعراض اليسيرة.
إن الإعلام الهستيري الذي صاحب هذا المرض، ثبَّت في أذهاننا صورة مرعبة له.
الجمعة 4 ديسمبر
بدأت تناول مضاد حيوي. هكذا أفعل دون استشارة لطبيب عندما تبدأ معي الكحة وثقل الصدر.
الأمر يسير، وأستطيع أن أزور والدتي، حيث يجتمع عندها الأهل.
يلازمني ألم غير عادي في عضلات الجسم. يقولون إن هذه أعراض المرحلة الأولى من كورونا، لكني أتشبث بشعور داخلي قوي بأن كورونا لا تصيبني… هذا الشعور الخادع ماذا يسميه علماء النفس؟
السبت 5 ديسمبر
فحصت كورونا صباح اليوم استعدادًا للسفر والعودة إلى مقر عملي بمكة المكرمة.
بعد الظهر أذهب لوداع الوالدة. فلأضع في يدي شيئاً من العطر… والدتي تحب العطر، وهي تقبل يدي وأنا أقبل رأسها…
أهذا معقول! لا أشم العطر!
إذن ثبت شرعًا، فهذا هو العرَض المؤكد لكورونا؛ فقدان حاسة الشم.
الأحد 6 ديسمبر
خفت أوجاع الجسم، ولكن إعياء وتعب عام. اتصل شقيقي أحمد يبلغني بأن نتيجة فحصي إيجابية، وأنه هو أيضًا بدأ يشعر بالأعراض نفسها.
استقبلت اتصالاً هاتفياً من الدكتورة سارة من الوبائيات، شرحت ما ينبغي عمله في اتباع البروتوكول العلاجي: استمر في المضاد الحيوي، وخذ اسبرين 100، فيتامين سي، والزنك، وفيتامين د، وحبتين على معدة فارغة من دواء أساسي مدة ثلاثة أيام، له أثر شديد على المعدة، وينتج عنه إسهال. وتناول باراسيتامول 500 لتخفيض الحمى.
ثم استقبلت اتصالات أخرى تقدم كمية من الوصفات البلدية، القرض، واللبان الضكر وورق النيم والكمون بالعسل و…
مدَّعو العلاج يقدمون لك وصفات ما أنزل الله بها من سلطان. تصوَّر أن أحدهم قدَّم تركيبة للقضاء على المرض في أربعة أيام!
الاثنين 7 ديسمبر
زارتني الدكتورة نضال زمراوي من مركز العزل في جبرة. لما دخلت بادرت بخلع الكمامة، وقالت: أنا أصبت بالمرض من قبل بحكم العمل، وأنا في حالة مناعة الآن.
سألتني عن الأعراض التي أشعر بها، فأجبتها بسؤال مضاد: أليست الأعراض كلها متشابهة؟
قالت: لا. هناك من تمر بهم الإصابة خفيفة، وقد لا يشعرون بشيء، ويحصل الشفاء قبل تشخيص المرض.
قلت: يا دكتورة… هذه الحمى التي لا تريد أن تتوقف. أبلع حبة البنادول وأشعر أنها ذهبت، لكنها ترجع، حتى يتملكني شعور أنها لن تغادر الجسم.
حرارتك في المعدل الملائم لحالتك، أقصى معدل لك كان 38:9 وهذا معدل عادي، والأكسوجين في المعدل الطبيعي. أعراضك لا تدعو للقلق. حاول أن تطرد القلق والهواجس.
واستطردت الطبيبة: لاحظت عندنا في مركز العزل أن أقل الناس قلقًا وأكثرهم تفاؤلاً والتزاماً بالذكر والصلوات هم الذين يبلغون الشفاء. لما أقول مثل هذا الكلام يظنون أنني أقول دجلاً وخزعبلات، لكنها الحقيقة التي رأيتها بعيني.
ذكرتني الطبيبة بالحديث الصحيح في البخاري: أنَّ النبيَّ صَلى الله عليه وسلَّم دخلَ علَى أعرَابِي يَعُودُهُ، قَالَ: لا بَأْسَ، طَهورٌ إن شاءَ اللَّهُ فَقال له: لا بأس طَهُورٌ إن شاءَ اللَّهُ قَالَ: طَهُورٌ؟ كَلَّا، بَل هي حُمَّى تفور، أوْ تَثُور، علَى شيخ كبِيرٍ، تُزِيرُهُ القُبُور، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَنَعَمْ إذًا.
حفظك الله ابنتي الدكتورة، لا أجد ما أقول فيك غير تلك الكلمة البسيطة التي قرأتها في (قروب إعلاميون ضد كورونا)، قال أحدهم لطبيبة عالجته: “مبروك للأم الجابتِك… في دكاترة بيروقو الدم، والزول ممكن من غير دوا يبقى كويس”!
وقروب إعلاميون ضد كرونا كان مصادفة لي في هذا اليوم، إذ وجدت أن أحدهم أضافني له، وفيه جملة من كبار الإعلاميين والأطباء والاستشاريين. وقد غيروا اسم القروب فيما بعد إلى إعلاميين في مواجهة كورونا.
الثلاثاء 8 ديسمبر
هذا هو اليوم التاسع لي مع المرض، وعرفت من مداولات قروب إعلاميون في مواجهة كورونا أن أشد الأيام صعوبة تبدأ من اليوم الخامس إلى العاشر، ومن يعبر اليوم العاشر، فهو بإذن الله يبلغ الشفاء.
قدّم عدد من الأطباء نصائح غاية في الفائدة: اترك أربعًا وافعل أربعًا لتقوية مناعتك: اترك الخوف والقلق، والإرهاق، والعادات الضارة مثل التدخين، والأدوية من غير وصفة طبية. وافعل أربعة: النوم الكافي ليلاً، والغذاء المتوازن، والصيام الجزئي، والرياضة المستدامة.
عرفت من القروب أيضًا أن المرض ربما يمر دون أعراض كما تقدم، أو يكون في المستوى المتوسط ويُعالج في البيت، أما المستوى الوخيم، فهو يبدأ مع ضيق التنفس وانخفاض نسبة الأكسوجين في الدم، وهذا لا بد من متابعته طبيًا في المستشفى. ويكون المستوى الوخيم جدًا عندما تتعطل الرئة من أداء وظيفتها.
السبت 12 ديسمبر
تجاوزت ولله الحمد فترة الأيام العشرة، وأنا في اليوم الثالث عشر. ما يزال الإعياء الشديد يلازمني. ولا أجد طعمًا لما آكل أو أشرب، والأشياء لا رائحة لها… بل لها رائحة لا تستطيع أن تصفها، رائحة غير مستساغة بأية حال.
ألم في جنبي الأيمن، وتردد مستمر على الحمام، يُقال إنه التهاب بولي.
سبحان الله، شعرت اليوم بجوع، وكنت لا أطيق الأكل مطلقًا. لعله من علامات الشفاء.
الأحد 13 ديسمبر
ومن علامات الشفاء بإذن الله أنني نمت نومًا عميقاً حتى فاتتني صلاة الفجر. لكن العلامة الأكيدة على التشافي أنني طلبت جرائد اليوم كلها وقرأتها جميعا.
لم أكتشف أن بناتي ابتهال وهند كانتا مصابتين أيضًا بالمرض مع أعراض خفيفة، ومع ذلك سهرتا على خدمتي وتقديم الأدوية في مواعيدها.
لا شك أن المشاعر التي تحيط المريض من الأسرة والأهل والأصدقاء، تمنح الإنسان تعويضًا كبيرًا عن أي نقص آخر، وقد نلتُ من ذلك الكثير.
ليت عموم الناس في وطننا يتركون المشاعر السلبية من الغل والكراهية، وينصرفون للبناء والتعمير والإنتاج.
في أوضاع بلادنا التي يعتريها اضطراب الحال جدًا، يصبح التكافل الأسري والمجتمعي بعد عون الله تعالى، هو ما يخفف على المكروبين…
وهذا هو ما تغنى به أحد فنانينا في شمال السودان:
يا رب يا كريم نجِّينا
من غضبًا إلهي كورونا
نحن الحيلنا آخره معاها
ياها الموية والصابونة

بقلم: د. عثمان أبوزيد