مقالات متنوعة

مدى الفاتح يكتب عمر البشير: نهاية مستبدٍ عنيد

حكم عمر البشير السودان لقرابة الثلاثين عاماً، لكن هذه السنوات لم تكن كلها على وتيرة واحدة، فكانت السنوات التأسيسية الأولى هي سنوات القبضة الأمنية، التي كانت تخشى من تأثير الأزمة الاقتصادية، التي تزامنت مع تصعيد في الحرب الأهلية مع الجنوب، ومع العزلة التي بدأت تحيط بالنظام الجديد.
في مرحلة لاحقة دخل السودان عهد الطفرة البترولية، الذي تميز ببعض الانتعاش الاقتصادي الذي ظهر أثره في المباني الحديثة، ومساعي تطوير البنيات التحتية والتوسع في الصرف على الأنشطة العامة. كانت تلك هي الفترة التي بدأ فيها الفساد يتسرب إلى الموظفين الحكوميين وإلى رجال الأعمال الذين تربطهم علاقات بنافذي الحزب الحاكم.

حسن الترابي مثّل حمولة على النظام بإصراره على تصدير الثورة ودعم المقهورين، وعلى رأسهم القيادات الإسلامية والجهادية العالمية

نظام العقوبات الأحادية ساعد على تقنين أنواع كثيرة من المضاربات والالتفافات التي كانت تهدف للتهرب من العين الدولية، ومن مراقبتها اللصيقة لموارد السودان وتحويلاته المالية. مثل ما كان يحدث في الحالة الإيرانية، وغيرها من الحالات التي تكثفت فيها العقوبات ضد بلد ما، فإن الضغوط الدولية سرعان ما أعطت مجالاً لنشوء طبقة من الوسطاء والسماسرة الوطنيين والدوليين، الذين يقدمون من ناحية خدمة للدولة بمساعدتها على التصدير والاستيراد، ومن ناحية أخرى خدمة لأنفسهم، بما يمكنهم من تكوين ثروات هائلة، من خلال التوسط التجاري أو العمل لصالح الحكومة من طرف خفي. رغم عظم التحديات خلال العشرية الأولى، إلا أن النظام الذي لم يكن مدعوماً إلا حلفاء قليلين، بدا صامداً ومتماسكاً على نحو عجيب، حتى أن البعض تساءل عقب إجبار البشير على التنحي في2019 سؤالاً مفاده كيف صمد النظام طيلة تلك السنوات العصيبة، ثم انهار ببساطة غير متناسبة مع ما بات يملكه من أسباب القوة الأمنية والعسكرية؟

يمكن القول إن أول تفكك في النظام السياسي بدأ بعد انفصال البشير عن حسن الترابي (1999). لم يكن دور الترابي يقتصر على التخطيط للانقلاب، الذي أتى بالبشير إلى سدة الحكم، وإنما ظل يتابع النظام الوليد ويخطط له، هادفاً للوصول إلى ما كان يعتبره مشروعاً إسلامياً متكاملاً. الترابي مثّل حمولة صعبة على النظام بإصراره على تصدير الثورة ودعم المقهورين، وعلى رأسهم القيادات الإسلامية والجهادية العالمية، لكن تلك لم تكن المشكلة الوحيدة، فبالنسبة للبشير، وبعض المقربين منه، كان «الشيخ» يريد أن يلعب دوراً سياسياً أقرب لدور المرشد الأعلى الإيراني. خطوة تنحية الترابي من المشهد السياسي كانت لها أثار سلبية واضحة على بنية النظام، سوف تمتد على مدى العشرين عاماً التالية. من تلك الآثار فقدان المئات أو الآلاف من الكوادر التي كانت تمثل مخزونات استراتيجية للنظام، وتعمل ظهيرا له في جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وهي العناصر التي كانت أكثر إيمانًا بمشروع البشير- الترابي لدرجة التطوع والتبرع المجاني بالنفس والمال. كانت هذه الكوادر، التي ظلت موالية لإمامها، مصدر قلق وضيق، وباتت الأجهزة الأمنية تصفها بأنها المجموعة المعارضة الأكثر خطورة لعقائديتها، ولكن أيضاً لاقترابها السابق من دولاب الدولة، ودوائر صنع القرار، ما جعلها محل تنكيل وتشريد وتشكك في نواياها، خاصة أن البعض منهم لم يكن ينكر رغبته في استرداد الدولة المختطفة.

الأثر الثاني المهم لهذا الانفصال تمثل في عملية الإحلال الجديدة لسد الفراغ في هرم السلطة، وفي قواعدها المختلفة، وهنا لم يجد النظام بداً من تغيير خطابه، فلم يعد شرط الولاء للجماعة بالمفهوم التنظيمي الصارم السابق أساسياً، وتم الانفتاح على شركاء جدد، سواء من أحزاب حليفة أو من أفراد مهنيين في مجالات مختلفة. كانت فكرة الانفتاح هذه جيدة من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية فإنها كانت تعني حشد مجموعة كبيرة، لكن غير متجانسة من الأفراد مختلفي التوجهات من الذين لا تجمعهم سوى المصلحة. المشكلة هي أن هذه الجموع المناصرة، التي تظهر الولاء المطلق في زمن الطمع سرعان ما تتبخر في أزمنة الفزع.
بعد الانفصال عن الترابي ومحاولة تحميله أوزار العداء مع العالم، بدأ النظام مع الألفية الجديدة سياسة خارجية مختلفة، مبنية على تحسين العلاقة مع دول الجوار، وجعل التطبيع مع دول العالم الغربي أولوية، مع إبداء الاستعداد لتقديم أي تنازل ممكن في سبيل ذلك، ما تمثل بالدرجة الأولى في التعاون الاستخباراتي، وإتاحة الممكن من معطيات الحركات الجهادية، التي ارتبطت بعلاقة ما مع النظام. أما التنازل الأهم فكان القبول بحل المسألة الجنوبية، وفق المنظور الغربي الذي بدأ بدستور 2005 وانتهى بالاستفتاء وتقنين ولادة دولة جنوب السودان، التي كان السودان من أول المحتفلين بها، قبل أن يعترف البشير لاحقاً بأن كل ذلك كان خدعة، حيث لم تنجح هذه التنازلات، على عظمها، في تسويق النظام ولا في رفع العقوبات أو حجب الديون، بل تزامنت مع تصعيد دولي جديد حول مسألة دارفور وإعلان البشير متهما دوليا بجرائم حرب.
انفصال الجنوب أدى لفقدان السودان معظم ثرواته البترولية، ما أدى لانتهاء حالة الوفرة والقدرة على دعم المنتجات الأساسية. كان أحد الحلول المطروحة هو رفع الدعم لتقليل المنصرفات، لكن مجرد إعلان هذه السياسة أدى لخروج الناس في تظاهرات ضخمة عام 2013، ورغم التصدي الأمني العنيف للمحتجين، والنجاح في إجهاض الحركات الرافضة عبر استخدام العنف المفرط، إلا أن النظام لم يجرؤ على المضي في هذه السياسة التي بدت محل رفض عام. تلك كانت فترة انفضاض كثير من الأسماء البارزة من حول البشير، الذي بات متشككاً، ولا يحب الاستماع إلى أي نصيحة، خاصة إذا ما تعلقت بضرورة تنحيه، فأسس غازي صلاح الدين، أحد منظري الحزب، حزباً منافساً باسم «الإصلاح الآن» جمع فيه عدداً من المعترضين على سياسات البشير، في حين توزعت أسماء أخرى فاعلة بين الإقصاء الإجباري والانزواء الاختياري، وهو ما قدّم فرصة لمجموعة جديدة من الانتهازيين للتسلق والعمل كبديل مريح عن المقربين السابقين، عبر المبالغة في تزيين كل ما يراه الرئيس. لم يكتف البشير بخوض انتخابات 2015، لكنه كان ينوي أيضاً الترشح لانتخابات 2020 رغم بروز أصوات مناوئة لذلك من داخل حزبه.

خلال الأعوام الأخيرة بدأ النظام يترنح اقتصادياً وسياسياً بشكل واضح، ولم تعد حول البشير إلا مجموعة قليلة من المنتفعين، بعد أن فقد حاضنته الشعبية ليس فقط من مجموعة الترابي، التي لم تكن تخفي ضيقها من مجمل النظام، ولكن أيضاً من الأسماء التي استعداها من داخل حزبه، والتي أصبحت لا ترى فيه سوى مجرد ديكتاتور متسلط. أما الحاضنة الأوسع والتي كانت تضم أجنحة مختلفة من الإسلاميين والمحافظين، فبدأت تنفض كذلك يدها منه معبرة عن استيائها من فشل الدولة، وظهور الفساد، وعدم الجدية في تطبيق أحكام الإسلام. بدأ خطباء المساجد ينتقدون كل ذلك جنباً إلى جنب مع انتقاد ميل النظام للرضوخ للغرب، واستعداده لتقديم تنازلات جديدة من أجل البقاء. اكتمل المشهد بوجود الجماهير التي كانت تتوق لأي تغيير، إضافة للأعداء اليساريين التقليديين، من الذين كان سعيهم لنقض حكم «الإسلاميين» منهجياً. في لحظة ما، بدا النظام هشاً ومحاصراً، ولم يعد هناك مفر من انحياز الجيش وإجبار الرئيس العنيد على التنحي.

د. مدى الفاتح – صحيفة القدس العربي
كاتب سوداني

‫4 تعليقات

  1. الحرية والتغير ديل ناس انتهازيين جدا ،افهموا حاجة واحدة أن لجان المقاومة والثوار ممكن يقوموا بثورة عارمة ضدكم وإسقاط حكومتكم ويجب ان يعلم اى واحد فيكم بأنكم لا تمثلون الثورة ولا الثوار

  2. الصقر ان وقع كترت سكاكيبو.. معقول البشير ده كلو سيئات و اجرام ولا حسنة واحدة و لا انجاز واحد.. بس معقول ده يا قحاحيط (بعد التعديل احتراما للقارئ الكريم)

  3. المقال اعطي المؤتمر الشعبي والترابي اكثر مما يستحق
    لماذا ركز الكاتب علي الترابي والموتمر الشعبي ؟؟؟؟؟