مقالات متنوعة

مدى الفاتح يكتب معركة سياسية حول مايكل أنجلو


منذ القرن الرابع عشر وحتى السادس عشر الميلادي، وجنباً إلى جنب مع أسماء لعدد من الرسامين والنحاتين، لمع في مدينة فلورنسا الإيطالية اسم عائلة ميديتشي، التي كانت شبه متحكمة في السلطة آنذاك. ارتبط اسم العائلة بالمضاربات والبنوك، حيث كان بنك ميديتشي في حقبة ما هو الأكبر في أوروبا. قدمت العائلة أربعة بابوات للكنيسة وملكتين لفرنسا وعملت على تطوير المدينة وملئها بالقصور والمباني الفخمة، التي ما يزال كثير منها قائماً حتى اليوم.
في سبيل هذا الهدف لم يبخل آل ميديتشي على الفنانين والمعماريين، الذين تم دعمهم بحماس للقيام بكل ما يجعل فلورنسا أكثر جمالاً. كان حكام المدينة مثل كوزيمو، صاحب فكرة أكاديمية فلورنسا، ولوران المعروف بالعظيم، مهووسين بفعل كل ما هو جديد، ليس فقط بسبب الرغبة المجردة في التجميل، ولكن أيضاً من أجل كسب الجماهير. هذه الاستراتيجية أثبتت فعاليتها، خلال الفترات الصعبة التي مرّ بها حكم العائلة، وكاد أن ينتهي أكثر من مرة، لولا الولاء العميق للشعب.
كانت جمهورية فلورنسا في أغلب أوقاتها مسيحية وعابرة للمسيحية في وقت واحد، فكانت عائلة ميديتشي، على سبيل المثال، تلتزم ظاهرياً بتحريم الفوائد الربوية، وفق توجيهات الكنيسة، رغم كونها معتمدة في أرباحها عليها، من خلال استخدام دفاتر خفية للحسابات. يظهر التناقض كذلك في إعلاء الرموز المسيحية سياسياً، وتجاوزها من قبل المجتمع الغارق في الفساد والفوضى الأخلاقية، كما تظهر العلاقة الخاصة مع الدين في بنية اللوحات والتماثيل، كتمثال «داوود» الرخامي للنحات دوناتيلو الذي صنعه لأجل كوزيمو، والذي يصور شخصية إنجيلية بطولية لكن بشكلٍ عارٍ وبملامح تظهر انتقالاً فريداً من نوعه، من مستوى الروحية الإنجيلية إلى مستوى التجسيد الإنساني، الذي لا يكتفي بنزع القدسية، وإنما يرقى لتصوير شخصية دينية بملامح مثلية. في هذه الأجواء ولد مايكل أنجلو (1475ـ 1564) الذي تغيرت حياته من نشأة فقيرة، تسببت في إيداعه لدى أسرة بديلة، مهتمة بأعمال الرخام، إلى أحد أهم الفنانين النهضويين في أوروبا، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن لهذه الشخصية التي مضى على وفاتها قرابة الخمسة قرون أن تثير جدلاً سياسياً معاصراً في السودان؟ بدأت القصة بعد التغيير الذي أطاح بحكم عمر البشير، وصعود النخبة الليبرالية والعلمانية، وتشكيلها ما أطلقت عليه اسم «حكومة الثورة». هذه الحكومة، رغم أنها كانت انتقالية في أصلها، ومخولة فقط بتسيير الأعمال استعداداً للدعوة إلى الانتخابات، إلا أنها شرعت منذ أول يوم في محاولة إعادة صياغة المجتمع، الذي ظنت أنه اعتراه التشويه، وغلب عليه التشدد، فجاءت الوثيقة الدستورية كميثاق علماني للحكم، تلتها سلسلة من القوانين والإجراءات، التي حاولت بناء سودان جديد غير مرتبط بالضرورة بالهوية الإسلامية. لتمرير هذه الورقة الدستورية التي صممت لتكون هادية للفترة الانتقالية، كان يجب إقصاء المعترضين عليها، الذين هم في الغالب ممن يرفضون تنحية الدين عن الشأن العام، وهكذا صار التحالف الحاكم خليطاً من مختلف الأجناس السياسية، لكن التي تتطابق في مفهومها للدولة وعلاقتها مع الدين، مع استثناء وحيد ربما لحزب الأمة الذي كان تجاوزه صعباً.

تشريعات الأحوال الشخصية الجديدة، أسند أمر إعدادها لشخصيات بعضها معروف باستهزائه بالدين الإسلامي ورموزه ما ينذر باندلاع أزمة في السودان

في هذا السياق تم تعيين عمر القراي، ليكون مسؤولاً عن تغيير المناهج الدراسية لطلاب التعليم العام. يجب القول إن هدف تطوير المناهج كان مشتركاً بين معظم السودانيين، الذين اتفقوا على أن في المواد الدراسية كثيراً من الحشو والتعقيد. هذا هو ما جعل الكثيرين يستقبلون موضوع التطوير بحماس لم يطفئه إلا تعيين القراي مديراً للمناهج. كان المسؤول الجديد قادماً من الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يكن الأمر اللافت، فعدد من المسؤولين الحالين يحملون جوازات أجنبية، لكن ما أثار الانتباه، كونه كان معروفاً بانتمائه وحماسه للطائفة الجمهورية المرتبطة في أذهان السودانيين بالكفر والهرطقة، منذ أن أعدم الرئيس الأسبق جعفر النميري زعيمها محمود محمد طه بتهمة الردة. لسوء حظ الجمهوريين فإن تكفيرهم لم يأت فقط من قبل النميري وأعدائهم من رجال الدين التقليديين كما يصورون، وإنما اتفق عليه علماء الحجاز والأزهر الشريف وعدد من المجامع الإسلامية المرموقة، بسبب تطاول زعيمهم على الذات الإلهية، وإسقاطه فرضية الصلاة، واعتراضه على كثير من آيات القرآن وغيرها من الأسباب. ممثلو السلطة أعلنوا في البداية تمسكهم بالقراي معتبرين أن الاختيار وقع عليه بسبب كفاءته، وليس لأي محاصصة خاصة بالجمهوريين، لكن هذا المنطق الذي كان كافياً بالنسبة لأنصار الحكومة، لم يكن مقنعاً لأغلب المعترضين، الذين لم يروا في سيرة الرجل ما يشير لكفاءة استثنائية، أو أي خبرة نوعية في العمل التربوي، أو في وضع المناهج. من جهة أخرى فإن التوزيع الفعلي للمناصب بين الأحزاب، التي اصطلح على تسميتها بـ»حواضن» الحكومة الانتقالية، لم يكن يساعد كثيراً على نفي شبهة المحاصصة، وتعمد إدخال أبناء الطائفة الجمهورية، التي على قلة المنتمين إليها، باتت تحظى بتدليل خاص في الخريطة السياسية الجديدة. القراي بدوره لم يكتف بالعمل في صمت، وفي ذروة نشوته، بسبب ما كان يجده من دعم رسمي، لم يجد حرجاً في لقاءات عامة في التذكير بمنهجه، وتوضيح أفكاره التي كان يرى أن من حقها أن تشيع وتزدهر، بديلاً لأفكار المتطرفين وتجار الدين، وهي التوصيفات العامة التي تكاد تشمل جميع مسلمي السودان على مختلف اتجاهاتهم، من المؤمنين بأن القرآن واحد ومقدس كله، وبأن رسالة النبي هي كلمة السماء الأخيرة. كما كان متوقعاً تسببت هذه الآراء التي تقدح في مسلمات الدين الإسلامي، في إثارة حفيظة الناس الذين اعتبروا أن الرجل غير مناسب ليكون وصياً على مناهج أبنائهم، بل مضى البعد لأكثر من ذلك مطالبين بمحاكمته.
كان القراي قد وجد الحرية الكافية لوضع منهج يحمل رؤيته، حاذفاً من الدروس الدينية ما يراه غير مناسب من شروح وآيات، ومن التاريخ ما تعلق بالدولة المهدية، وغير ذلك من الإضافات والاجتهادات الفردية. القشة التي قصمت ظهر البعير كانت صورة لوحة مايكل أنجلو الشهيرة والمسماة «خلق آدم» التي تسربت متسببة في ثورة عارمة على الوسائط الاجتماعية، ومن على المنابر التي اتفق خطباؤها على كون أن تصوير الخالق والأنبياء غير مقبول، وغير مقبول بشكل أشد أن يكون في كتاب مدرسي للتعليم الإلزامي، ناهيك من أن يكون ذلك الرسم عارياً. لم تكن هذه هي مشكلة المنهج الوحيدة، فبخلاف المشكلات العقدية، كان فيه كثير من الإخفاقات والأخطاء الفنية والعلمية، ما أدى به ليكون محل انتقادات واسعة. لاحقاً، تم توقيف العمل بالمنهج وأتيحت الفرصة للقراي ليتقدم باستقالته من منصبه، لكن الأكيد أنه، حتى إن انتهت أزمة المقررات، إلا أن المعركة في إطارها الأوسع لا يبدو أنها في طريقها إلى النهاية، فالواضح أن القلة الشاذة المستقوية بجدار السلطة، لا تزال مصرة على فرض تصوراتها على الأغلبية المحافظة، وهو ما يظهر في المحاولة الجارية حالياً لتمرير تشريعات الأحوال الشخصية الجديدة، التي أسند أمر إعدادها لشخصيات، بعضها معروف بالاستهزاء بالدين الإسلامي ورموزه، ما ينذر باندلاع أزمة أخرى قد تكون أكثر شراسة.
د.مدى الفاتح
كاتب سوداني

مدى الفاتح – صحيفة السوداني


تعليق واحد