رأي ومقالات

قاضٍ غامض (مُرْتبك) وسيناريوهات مفتوحة ..تفاصيل جلسة محاكمة مدبري انقلاب الإنقاذ

أقسى ما يُمكن أن تراه في هذا الصباح، هو المشهد المألوف، منذ بداية هذه المحكمة المتنقلة، أو أبعد قليلاً، بل منذ أن فكّر بيدق المخابرات الأشهر في إزاحة (المِلك) من رقعة الشطرنج، مرة وإلى الأبد، ليس وحده بالطبع، صفوف متراصة مترامية من السخط، لا تزال تذهب وتعود، كأنها ترمي بشرر كالقصر، ثمة موازنة متعثرة، وقبائل ساعية للمجد، متحفزة، شعرت بالضيم فسدّت الطُّرق، منذ أيام حين عجزت (المدينة) عن طلب العدالة لمحابيسها، الثابت منها اهتزّ في الشرق والوسط، أما المتحول فقد برز في غلاف كتاب للفاتح جبرة، صدر لتوِّه “جباية في حكاية” اختص فيه بالإهداء، على نحوٍ مُفاجئ، من سلقه بقلمه كثيراً في الماضي، وأطلق عليه، اليوم “سعادة الأخ المشير عمر البشير”، وفقاً لتعبير ساخر سبيل!
عامٌ جديدٌ،، وقاض بديل غامض، ربما قصد أو فات عليه أن يُعرِّف نفسه، في الأول، حين طلب كشف الحضور، وهو الكشف الذي لم يتغيّر، بما فيهم، رئيس نادي النيابة العامة “أحمد الحلا” المتحري الأول، الذي لا يُطيقه، “تاج السر الحبر” كما يبدو، فسعى لاستبداله، دونما مرة، مع حملة (شيطنة) مُوازية أيضاً، لم تمنعه من الحضور، وفق ما أُعلن، نهاية الأسبوع الماضي، ومع ذلك بدا شيء يتحرّك في الخفاء، شيء غريب حال دون سماع شهادة “الحلا”، رغم مثوله، قفل وعاد، دون تلاوة يومية التحري، إذ أن ذات وكيل النيابة، كان قد باشر التحري مع المتهمين في تدبير انقلاب الـ(30) من يونيو 1989، بعد نحو شهرين من سقوط الانقاذ، وأخذ شهادة الإمام الصادق المهدي، الغائب الحاضر، صاحب الشرعية الوحيد، وشهادة الفريق (مهدي بابو نمر) أحد أبرز قادة هيئة الأركان، إبان ليلة عبور المُجنزات، إلى جانب إفادة العميد يوسف عبد الفتاح ذات الأهمية البالغة، كما ذكرت النيابة.
ها أنذا أبصر ابنة (رامبو) في انتظار السماح لها بالدخول لمُعانقة والدها الحزين، من وراء السياج، بعد أن رحلت عنهما الزوجة والأم، كلاهما، يوسف وابنته، في نوفمبر الماضي، وها هي البوابة اليسارية المواربة، لم يدخل منها أحدٌ، تعلوها ساعة حائطية مزدانة بالفصوص الفضية، معطوبة ولكنها صدقت مرتين.
كان المايكروفون يصدر صفيراً مُزعجاً كصفير الشتاء، قبل وأثناء الجلسة، البشير غاص في وحل القاعة، كَبّر عشر مرات، وضحك مرة، افترت أصابع عبد الرحيم محمد حسين عن سبحة من اللالوب، لتزجية الفراغ بالذكر، وتلقى أحمد علي الفششوية، لتوه تقرير بعض المدارس الناجحة والطلاب المتفوقين، الذين اعتنى بهم طويلاً، من جملة تقارير أسرية بالطبع، فيما دلف القاضي الجديد، المكلف بأخطر مهمة، في مواجهة هيئة دفاع متمرسة، تجيد اللعب الضاغط وتشتيت الكرة أحياناً، وحاضنة سياسية من الخلف تريد إدانة الحرس الإنقاذي القديم، بأي ثمن، لا شيء غير الإدانة.
جلس القاضي مولانا (أحمد علي)، هذا هو إسمه، فبدا قصير القامة، يرتدي وشاحاً أحمر عليه شعار السلطة القضائية، وهو المكلف، من جهة عليا، كما سمى نفسه، لكن ربما فُوجئ بعاصفة من الأضواء المُربكة، وسرعان ما لبث أن استوعب المشهد، حين جال ببصره، واستنصح من زميله القاضي المساعد، المغضوب عليه، من قِبل هيئة الدفاع، (محمد المعتز) لشعورهم بأنه في مقام الخصم، ولا يطمئن له المتهمون، كما أشار المحامي أبوبكر عبد الرازق، ولعل سيرة القاضي الجديد، قد مضغتها ألسنة الدفاع سراً، لاستكناه حقيقته، فهو قد عمل لأكثر من عقد من الزمان، في ولاية جنوب كردفان، جبال النوبة تقريباً، وقبل التحدي، تحدي المحكمة، بعد أن رفض (١٥) قاضياً مُباشرتها، عقب تنحي مولانا عصام الدين محمد إبراهيم.
من الخارج وثب ضوء ثقيل، وانفلتت طلبات هيئة الدفاع، مرة بوقف المحكمة لحين الرد على الطعون والطلبات، أو صياغة كل شيءٍ من جديد مع إعادة تشكيل المحكمة، ومرة بدافع إيقاف النشر الإعلامي، وفقاً لمحامي المتهم الذي يُحاكم غيابياً، قائد المدرعات الأشهر (صديق فضل) دون تفسير لهذا الطلب، المعنون تحت عبارة (أخطاء واردة) والذي، للمفارقة، أول من رفضه فريق الدفاع، وبحماس أقل هيئة الاتهام، وإلى حدٍّ ما نسبياً مدير التلفزيون القومي، الذي انفلتت منه السيطرة، على (الحيشان التلاتة) كما انفلت الدولار، مثل كرة الثلج المتدحرجة من أعلى، والسوق أيضاً، حين توشّح بالمقايضة والنهب، وصار يلهث كالخنازير، مُوغلاً في الجشع وتدمير الوطن.
لا زال المتهم التاسع عثمان أحمد الحسن دون دفاع وقد تولّى هو الدفاع عن نفسه، ولا زال الجدل مُحتدماً، حين مرّر سبدرات الكرة تحت الأدراج، إلى أبوبكر هاشم الجعلي، وحجبت طلة محمد الحسن الأمين النيابة، عن فهم ما يجري، فأمطروا جميعاً منصة المحكمة بسيل من الطلبات، سرعان ما انضمت إليهم أسماء مدافعة، فأسقط في يد القاضي. طلب الجعلي قرار تشكيل المحكمة الجديدة، فردّ القاضي: “بندِّيك النسخة بعد الجلسة”، قال الجعلي مرتجلاً مداخلة صاخبة “أمر التشكيل السابق لا يعنينا إذا كان أمر التشكيل الجديد يعتمد على مواد الاتهام، التهمة يجب أن تُوجّه الآن أو أن المحكمة غير ملزمة بتوجيه التهم المنصوص عليها في أمر التشكيل”، القاضي يجيب مرة أخرى “هو ليس أمر تشكيل، وإنما تعديل تشكيل، والهيئة ستحاكم بالبلاغ المُوجّه بموجب التهم الموجودة في التحري، مافي تُهمة جديدة”. فيتدخّل سبدرات (يجب أن يكون أمر تشكيل جديد، لأن الأمر السابق تم في قاعة أخرى، ومحكمة برئاسة أخرى)، يقطع القاضي حبل المداخلات المتناسلة “لو في حد عاوز يكرر نفس الكلام ما يتداخل معانا”، أما الطلب الثاني، فهو متعلق بالسير في هذه الدعوى تحديداً، لأن المتهمين لا يطمئنون لمحكمة خاصة.
هنيهة من الصمت، تلتقط النيابة المايكروفون وترد بأن كل هذه الطلبات تم البت فيها سلفاً. تدور طاحونة الطلبات، يجب وقف هذه المحكمة، يقول أبوبكر عبد الرازق. يرد القاضي “المحكمة سوف تستمر في الإجراءات” طلب حول سماع المتحري، القاضي لمحامي الدفاع “أودع لينا الطلب يا أستاذ”.. ينضم سراج الدين حامد للطلب الأخير. سبدرات يُذّكر بالجائحة التي حبست أنفاس العالم، وجعلت مراسم الدفن صامتة باردة، دفن الإنسان كـ(الكيبُل). القاضي “لو سمحت أودع لينا الطلب”.. النيابة ترد على سبدرات بأن رئيسة القضاء هى التي قررت استئناف العمل في المحاكم، يرد سبدرات “رئيسة القضاء ليست جهة مختصة لتفتي في شأن طبي”، ينهي الحاجب الجدال بالنداء الأخير “محكمة”.
تقدّمت نحو الفريق عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع الأسبق وسألته، عن فتوحات الجيش في الفشقة، واحتمالات انقلاب جديد، يُدبِّرونه؟ أزاح الكمامة وقال ضاحكاً (….)
نواصل،،،

عزمي عبد الرازق