بعد تهديد السيسي بالتصعيد.. هل تبني إثيوبيا أسطولا بحريا جديدا لحماية سد النهضة؟
تثير تهديدات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن رد مصر على أي نقص في إمدادات المياه “سيتردد صداه في المنطقة”، تكهنات عدة حول إمكانية لجوء القاهرة لاستخدام القوة لحماية حقوقها التاريخية في مياه النيل، وإعاقة خطط إثيوبيا لملء سد النهضة، وهو ما يسلط الضوء على تعهد رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد القديم ببناء قوات بحرية لبلده الحبيس -الذي لا يملك أي سواحل على البحر- بعد شهرين فقط من وصوله إلى السلطة، في خطوة رأى المراقبون أن هدفها الأساسي هو توفير الحماية للسد وإعاقة أي جهود عسكرية مصرية محتملة لمنع أديس أبابا من السيطرة المنفردة على مياه النيل. يتناول هذا التقرير خطط إثيوبيا لإعادة بناء قواتها البحرية، وفرص نجاح هذه الخطط، وكيف تستعد مصر للتصدي لها. كثيرا ما يُطلِق السياسيون وعودا لا يستطيعون الوفاء بها، وربما لا ينوون الوفاء بها من الأساس، تُعَدُّ هذه الحقيقة إحدى البدهيات القليلة التي يعرفها الجميع عن عالم السياسة المُتقلِّب والغامض، لكن الأمر كان مختلفا خاصة مع ذلك الوعد الذي قطعه رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في يونيو 2018، بعد مرور أقل من شهرين على توليه منصبه رسميا، عبر كلمة مُتلفزة بثها التلفزيون الحكومي على الهواء مباشرة على مرأى ومسمع أكثر من مئة مليون إثيوبي، بخلاف ملايين آخرين تناقلوا التعهُّد المثير للجدل لرئيس الوزراء الجديد. خلال كلمته المُشار إليها، حرص أبي أحمد على تأكيد رغبته في انتهاج سياسة سلمية تجاه دول الجوار تقوم في المقام الأول على التعايش السلمي والتكامل الاقتصادي، مُوجِّها دعوات تصالحية غير مسبوقة لخصوم بلاده التاريخيين خاصة في إريتريا المجاورة، لكن أبي أحمد لم ينسَ في الوقت نفسه التلويح بالعصا مُتحدِّثا بفخر عن نجاح بلاده في بناء واحد من أقوى الجيوش في أفريقيا على مستوى القوات البرية والجوية، ومُتعهِّدا بالبدء في إعادة بناء القدرات البحرية للجيش الإثيوبي خلال المستقبل القريب. أثبتت توجُّهات أبي أحمد التصالحية أنها مجرد سراب، فبعد قُرابة عامين على توليه منصبه، شنَّ رئيس الوزراء الفائز بجائزة نوبل حربا دموية في إقليم تيجراي، وانخرط في نزاع حدودي مع السودان، لكن ظلَّ التعهُّد الذي أطلقه أبي أحمد ببناء سلاح بحرية جديد لبلاده مُثيرا بوجه خاص، ولا يرجع ذلك فقط إلى حقيقة أن بناء قدرات بحرية من الألف إلى الياء يتطلَّب استثمارات مالية ضخمة لن تستطيع حكومته الوفاء به في الوقت الراهن، أو حتى إلى كون بناء سلاح بحر قوي ربما يتطلَّب سنوات طويلة من التدريب الفني وصناعة الكفاءات بالاستعانة بقوة عسكرية دولية مرموقة، ولكن وجه الإثارة الحقيقي يمكن إرجاعه إلى حقيقة أبسط من ذلك بكثير، حقيقة يُدركها أبي أحمد وكل الإثيوبيين وكل مَن ينظر إلى خريطة إثيوبيا للحظة واحدة، وهي ببساطة أن أديس أبابا اليوم دولة حبيسة لا تمتلك أي سواحل بحرية كي يستغلها أو يدافع عنها سلاح البحرية المُنتظَر. للوهلة الأولى، كان من الممكن النظر إلى تعهُّد رئيس الوزراء على أنه محاولة لتوطيد سُلطته من خلال دغدغة أحلام ناخبيه ومشاعرهم واستعادة ذكريات الماضي القريب حين كانت إثيوبيا تمتلك سواحل طويلة على البحر الأحمر قبل انفصال إريتريا عنها عام 1993، لكن أحداث الأشهر اللاحقة أثبتت أن الأمر يتجاوز ذلك، وأن البلاد شرعت بالفعل في محاولة حثيثة لاستعادة الوصول إلى البحر، وإعادة بناء أسطولها البحري الذي حُلَّ رسميا عام 1996، بعد ثلاثة أعوام من الانفصال الإريتري. لم تنتظر أديس أبابا طويلا بعد تعهُّدات أبي، وفي غضون أشهر قليلة كانت قد شرعت في العمل بالفعل، وفي مارس 2019، خلال زيارة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لأديس أبابا التي تُعَدُّ أول زيارة لرئيس فرنسي إلى البلاد منذ السبعينيات، وقَّعت فرنسا وإثيوبيا اتفاقية تعاون دفاعي تعهَّدت خلالها باريس بتطوير سلاح البحرية الإثيوبي المُنتظَر وتدريب البحارين الإثيوبيين في فرنسا، ولكن السؤال المحوري حول المكان الذي ستتمركز فيه القطع البحرية المُنتظَرة للدولة الحبيسة ظل بلا جواب حتى ديسمبر 2019، حين أعلنت صحيفة كابيتال الإثيوبية عن اتفاق مبدئي لإنشاء قاعدة بحرية إثيوبية في دولة جيبوتي المجاورة. ووفقا للصحيفة الإثيوبية، فقد تم التوصُّل إلى الاتفاق خلال زيارة قام بها أبي أحمد إلى جيبوتي خلال شهر أكتوبر من العام نفسه، حيث التقى برئيس البلاد إسماعيل عمر غيلة وناقش معه التفاصيل المتعلقة بالقاعدة، لتصبح إثيوبيا بذلك آخر الملتحقين بالبلد الصغير الأكثر ازدحاما بالقواعد العسكرية الأجنبية على وجه الأرض، في ظل امتلاك كلٍّ من فرنسا والولايات المتحدة والصين واليابان وإيطاليا لقواعد عسكرية قائمة بالفعل في جيبوتي، ناهيك بوجود خطط (مُجمَّدة غالبا) لتأسيس قاعدة سعودية في البلاد أيضا. وبحسب المعلومات المتداولة، عيَّنت أديس أبابا بالفعل العميد كيندو جيزو لقيادة عملية تأسيس القوات البحرية، على أن يتمركز مقر قيادة القوات في مدينة بحر دار، عاصمة إقليم أمهرا في الشمال الإثيوبي، والمُطِلَّة على بحيرة تانا التي تُعَدُّ أكبر المسطحات المائية في الأراضي الإثيوبية، وبخلاف ذلك، أُعلِن عن افتتاح البحرية الإثيوبية مكتبا مؤقتا مستقلا عن وزارة الدفاع في منشأة شركة المعادن والهندسة “ميتك” الواقعة في ميناء المكسيك في العاصمة أديس أبابا. لكن الإعلان عن إنشاء قاعدة بحرية لإثيوبيا في جيبوتي من غير المُرجَّح أن يُنهي الجدل حول سر رغبة الدولة الحبيسة في امتلاك سلاح بحرية قوي، وإذا ما كانت القاعدة المنتظرة في جيبوتي ستكون كافية لتلبية طموحات البلاد البحرية، وكيف يمكن أن تؤثر تلك الطموحات على ديناميات القوى في المنطقة وعلاقات أديس أبابا مع القوى العالمية والإقليمية صاحبة المصالح في فضاء القرن الأفريقي، بدءا من الولايات المتحدة وفرنسا والصين، ومرورا بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وانتهاء بمصر التي تمتلك مخاوفها الخاصة تجاه التوسُّع البحري الإثيوبي في ظل التنافس التاريخي بين البلدين الذي يشتد اليوم بفعل الصراع المُحتدِم حول مياه النيل وملف سد النهضة الإثيوبي. على مدار الجزء الأكبر من تاريخها، كانت إثيوبيا دولة حبيسة بلا سواحل، باستثناء فترات تاريخية محدودة عندما منحها البرتغاليون مطلع القرن السادس عشر السيطرة على ميناء مصوع الإريتري بهدف قطع التجارة القادمة إلى مصر من الهند، ولكن مع نهاية الحرب العالمية الأولى رأت بريطانيا أن من مصلحتها تقديم إثيوبيا بوصفها قوة نافذة على البحر، لذا فإنها حاولت في عام 1935، إبان الحرب الإيطالية الحبشية الثانية، حاولت عقد معاهدة مع إيطاليا الفاشية تقر بموجبها بريطانيا بسيطرة إيطاليا على معظم أراضي الحبشة -بخلاف الموقف الرسمي لعُصبة الأمم آنذاك- وتمنحها طريقا إلى البحر الأحمر عبر ميناء عصب عُرف باسم “ممر الجمال”، مقابل الحصول على دعم موسوليني لجهود بريطانيا وفرنسا لمواجهة نفوذ هتلر في أوروبا، لكن المعاهدة باءت بالفشل وسرعان ما سقطت رسميا بعد أن كُشِفت تفاصيلها السرية للصحافة البريطانية. بحلول عام 1950، وبعد فترة قصيرة من نهاية الحرب العالمية الثانية، استطاع البريطانيون أخيرا منح إثيوبيا اتصالا مباشرا بسواحل البحر الأحمر حين اعترفت الأمم المتحدة بسيطرة إثيوبيا على إريتريا، وفي عام 1955 أُسِّست البحرية الإمبراطورية الإثيوبية التي تمركزت في قاعدة هيلا سيلاسي البحرية في ميناء مصوع، وبحلول أوائل الستينيات كانت العديد من المصانع والورش ومراكز التدريب البحرية قد أُقيمت في الميناء مانحة البلاد قدرات بحرية شبه كاملة للمرة الأولى في تاريخها. ومع قدوم عام 1958، اعتُرِف بسلاح البحرية بوصفه خدمة مستقلة داخل الجيش وأحد الأفرع الثلاث للقوات المسلحة الإثيوبية بجانب الجيش الإثيوبي (القوات البرية) والقوات الجوية الإثيوبية، وصُمِّمت وبُنيت البحرية الإثيوبية بوصفها قوة ساحلية هدفها القيام بدوريات على البحر الأحمر، وسرعان ما أثبت ضباط البحرية الإثيوبيون كفاءتهم بفضل التدريب الذي حصلوا عليه في قواعد البحرية الملكية البريطانية في إريتريا حتى قبل توحيدها مع إثيوبيا، وبفضل خبراء البحرية البريطانية المتقاعدين الذين عملوا مشرفين ومدربين للبحارة الإثيوبيين وساعدوا في تأسيس أول كلية بحرية في البلاد في أسمرة في عام 1956، مع برنامج دراسي يمتد لـ 52 شهرا، بخلاف مدرسة الضباط البحريين التي أُنشِئت في مصوع عام 1958 ومدرسة تدريب الكوماندوز البحريين في المدينة نفسها التي دُشِّنت مطلع الستينيات، وغيرها من مراكز التدريب البحرية في عصب وأسمرة ومصوع. لاحقا، استعان الإمبراطور هيلا سلاسي الأول بضباط البحرية الملكية النرويجية للمساعدة في تنظيم البحرية الإثيوبية الجديدة وتولِّي مهام التدريب بجانب الضباط البريطانيين المتقاعدين، بالتوازي مع قيامه بإرسال بعض ضباط البحرية الإثيوبية لتلقّي التعليم البحري في الأكاديمية البحرية الإيطالية في ليفورنو والأكاديمية البحرية الأميركية في أنابوليس بولاية ميريلاند الأميركية، وتُشير التقديرات إلى أن قوام سلاح البحرية الإثيوبي بلغ في ذروته قرابة 11500 فرد، معظمهم من المجندين الذين كانوا يقضون عادة سبع سنوات من الخدمة متطوعين. بالتزامن مع ذلك، بدأت البحرية الإثيوبية في رحلة لجمع القطع الحربية من رعاتها الغربيين، ونجحت خلال فترة قصيرة في جمع مزيج من زوارق الدورية وقوارب الطوربيدات والقوارب الغاطسة الصغيرة من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وبحلول عام 1963 نجحت البحرية الإثيوبية في ضم أكبر وحداتها على الإطلاق وهي سفينة الخدمات الأميركية “يو إس إس أوركا” القادرة على حمل الطائرات البرمائية، التي استخدمتها إثيوبيا بوصفها سفينة تدريب وظلَّت أكبر سفينة شغلتها البحرية الإثيوبية طوال 31 عاما من الخدمة. في الوقت نفسه، شرع سلاح البحرية الإثيوبية في تأسيس قواعد عسكرية بلغ عددها أربع قواعد، وفي حين استضافت مصوع مقر سلاح البحرية ومنشآت التدريب الرئيسية، فإن مقرات المحطة الجوية لسلاح البحرية والأكاديمية البحرية استُضيفت في أسمرة، بينما حوى ميناء عصب محطة بحرية ورصيفا لإصلاح السفن وبعض منشآت التدريب، واستضافت جزر دهلك في البحر الأحمر مركز الاتصالات الرئيسي إضافة إلى محطة بحرية. قام الإمبراطور “هيلا سيلاسي” الأول بالاستعانة بضباط البحرية الملكية النرويجية للمساعدة في تنظيم البحرية الإثيوبية الجديدة وتولِّي مهام التدريب بجانب الضباط البريطانيين المتقاعدين (مواقع التواصل) غير أن هيكل البحرية الأثيوبية ونظام عملها وقوتها شهد تغيرات كبيرة في أعقاب قيام الجيش بالإطاحة بالإمبراطور هيلا سيلاسي في انقلاب عسكري عام 1974 وتنصيب حكومة الدرج العسكرية التي قادها الشيوعيون (1974-1977)، ولاحقا خلال حكم منغستو هايلي مريام (1977-1991)، حيث شهدت هذه الفترة عملية إعادة توجيه كبرى للسياسة الإثيوبية ناحية الاتحاد السوفيتي، ولم تكن البحرية بعيدة عن ذلك، حيث أُعيد توجيه مسارات تدريب الضباط من الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا إلى الأكاديمية البحرية السوفيتية في لينينغراد والأكاديمية في البحرية في باكو بأذربيجان، وفي مقابل ذلك، دعم السوفييت أديس أبابا خلال حرب أوغادين في الصومال عام 1978، ما دفع الصوماليين لطرد السوفييت من قواعدهم في ميناء بربرة الصومالي، لتفتح أديس أبابا أبوابها على مصراعيها أمام موسكو التي أنشأت قواعد بحرية في عصب وجزر دهلك، وأقامت قاعدة جوية للطيران السوفيتي في مطار أسمرة، ناهيك بتولي أفراد البحرية السوفيتية معظم المناصب القيادية في الأكاديمية البحرية الإثيوبية وعملهم مستشارين لسلاح البحر الإثيوبي. كان هذا التحوُّل يعني بالضرورة انتقال البحرية الإثيوبية لتصبح قوة مجهزة على النمط السوفيتي، وعلى الرغم من أن أديس أبابا واصلت الاحتفاظ بالسفن الأميركية والغربية، وعلى رأسها “يو إس إس أوركا”، فإن الولايات المتحدة توقَّفت عن بيع الأسلحة إلى إثيوبيا رسميا في عام 1977، لتبدأ قوارب الدوريات وقوارب الصواريخ السوفيتية في التسلُّل إلى الأسطول الإثيوبي، وبحلول عام 1991 كانت البحرية الإثيوبية تمتلك فرقاطتين وثمانية قوارب صواريخ وستة زوارق دورية وسفينتين برمائيتين وسفينتين للدعم معظمها من أصل سوفيتي. وعلى الرغم من ذلك، كان من الواضح أن قوة البحرية الإثيوبية انحسرت إبان الحقبة الشيوعية مقارنة بزمان الإمبراطورية، مع توجيه معظم موارد للجيش للقوات البرية والجوية خلال حرب أوغادين وتقليص عدد أفراد سلاح البحرية الذي استقر قوامه عند 3500 فرد فقط، وقد حدث ذلك بالتزامن مع اشتعال تمرد الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا ضد الحكم الشيوعي في أديس أبابا، ولما كانت علاقة إثيوبيا مع إريتريا تدور بالدرجة الأولى حول الوصول إلى البحر، صمَّم المتمردون الإريتريون -الذين خاضوا حربا طويلة امتدت لثلاثة عقود لنيل الاستقلال- خطة فعَّالة للغاية للحرب البحرية غير النظامية ضد البحرية الإثيوبية لقطع الوصول البحري لأديس أبابا، خطة وظَّف فيها المتمردون الزوارق المدنية البدائية فائقة السرعة وزوَّدوها بمدافع مضادة للطائرات استولوا عليها أثناء قتالهم ضد الجيش الإثيوبي واستخدموها لعملية الاعتراض ودعم الغارات المحدودة على الشاطئ. بحلول فبراير 1990، كانت الجبهة الوطنية لتحرير إريتريا قد نجحت في السيطرة على ميناء مصوع، قبل أن تُسيطر في وقت لاحق على ميناء عصب، مما أدى إلى عزل الجيش الإثيوبي وفرض استقلال إريتريا بحكم الواقع عام 1991 تاركة إثيوبيا مجددا بلا سواحل، وعلى الرغم من ذلك جاهدت أديس أبابا للحفاظ على سلاح البحرية الخاص بها قيد العمل بعدما نقلت معظم القطع إلى موانئ اليمن، لكن صنعاء طردت السفن الإثيوبية في عام 1993، لتضطر أديس أبابا إلى التخلُّص من بعض سفنها ونقل بعضها الآخر إلى جيبوتي. خلال ذلك التوقيت، بذلت إثيوبيا مجددا جهودا كبيرة للحفاظ على أسطولها والحصول على وجود بحري دائم في جيبوتي، أو حتى في عصب، حيث طلبت من إريتريا المستقلة استئجار رصيف في ميناء عصب لتشغيل السفن، أو إنشاء سلاح بحر مشترك بين البلدين وتقسيم إدارة السفن، لكن إريتريا رفضت الطلب وأعربت عن رغبتها في تأسيس سلاح بحر خاص بها، وبحلول عام 1996 كانت جيبوتي قد تعبت هي الأخرى من استضافة السفن الإثيوبية في موانئها، خاصة بعد تخلُّف أديس أبابا عن سداد مستحقات الموانئ، وهو ما دفع جيبوتي للاستيلاء على السفن الإثيوبية وطرحها للبيع في مزاد علني حيث بِيع بعضها لإريتريا بالفعل، لتجد أديس أبابا نفسها مضطرة أخيرة للإعلان عن حل سلاح قيادة البحرية الخاصة بها ونقل قوارب الدورية المتبقية إلى بحيرة تانا، كاتبة بذلك شهادة وفاة سلاح البحر الإثيوبي بعد مرور أربعة عقود فقط على تأسيسه. مع حصول إريتريا على استقلالها رسميا عام 1992، وحل الأسطول البحري الإثيوبي بعد ذلك بأربعة أعوام، فقدت أديس أبابا وصولها إلى البحر نهائيا، وازدادت الأمور سوءا مع نشوب الحرب الأهلية بين أديس أبابا وأسمرة في عام 1998، لتصبح موانئ عصب ومصوع مغلقة تماما أمام الشحن الإثيوبي، وهو ما جعل البلاد مضطرة للاعتماد اعتمادا كاملا على جارتها الصغيرة جيبوتي من أجل التجارة، حيث تمر 95% من صادرات وواردات إثيوبيا عبر ميناء البلاد، وهو اعتماد جاء بثمن باهظ على ما يبدو، وكما تُشير مجلة إيكونوميست، فإن تكلفة شحن حاوية واحدة من جيبوتي إلى أديس أبابا تُعادل تكلفة شحن الحاوية نفسها من الصين إلى جيبوتي. أصبحت هذه المشكلة أكثر وضوحا وتأثيرا بفضل النمو السكاني الكبير في البلاد -يتجاوز عدد سكان إثيوبيا اليوم 105 مليون نسمة- والنمو السريع للاقتصاد الإثيوبي، والحاجة المتنامية إلى طرق شحن مأمونة وغير مُكلِّفة، ونتيجة لذلك فإن أديس أبابا حرصت على الحفاظ على أسطول محدود من السفن التجارية يبلغ قوامه اليوم 11 سفينة تقوم برحلات دورية إلى شبه القارة الهندية والشرق الأوسط والبحر الأسود، ويُدار هذا الأسطول بواسطة شركة الملاحة الإثيوبية المملوكة للدولة (ESLSE)، وعلى الرغم من أن هذا الأسطول يظل محدودا مقارنة بأساطيل شركات الشحن الكبرى، فإن البلاد حافظت عليه لدواعي الفخر الوطني وللتذكير الدائم بطموحها لاستعادة الوصول إلى البحر. لكن تجليات طموحات إثيوبيا البحرية لم تقف عند حدود السفن التجارية، حيث أنشأت البلاد أوائل العقد الماضي مدرسة للبحارة في مدينة بحر دار على بحيرة تانا قُرب منابع النيل الأزرق، ووضعت خططا طموحة لتدريب أكثر من 5000 من البحارة ومهندسي السفن على مدار أكثر من عقد بهدف تشغيلهم بالأجر لصالح الأساطيل البحرية في سريلانكا والفلبين، وفي حين أن الحكومة كانت تعتقد أن بإمكان هؤلاء البحارة إرسال قرابة 250 مليون دولار من العُملة الصعبة إلى بلادهم، فإن الخبرات التي كان باستطاعتهم تحصليها لا تُقدَّر بثمن بالنسبة إلى بلد غير ساحلي. في الوقت نفسه، ركَّزت أديس أبابا جهودها على خطة أكثر واقعية اعتمدت على زيادة الربط مع ميناء جيبوتي الذي يُعَدُّ منفذها الرئيسي إلى العالم من خلال خط سكة حديد بتكلفة ثلاثة مليارات دولار بدأ إنشاؤه في عام 2011 بتمويل صيني ويبلغ طوله 759 كيلومترا، جنبا إلى جنب مع إنشاء سلسلة من الموانئ الجافة داخل الأراضي الإثيوبية لتخفيض تكلفة التخزين والجمارك، لكن أديس أبابا لم تشعر أبدا بالارتياح تجاه اعتمادها المطلق على جيبوتي، خاصة مع سياسة الرئيس إسماعيل عمر غيلة المثيرة للجدل للاستفادة من موقع بلاده الإستراتيجي لتأجير القواعد العسكرية للدول الأجنبية، وهو ما تسبَّب في تنامي مخاوف أديس أبابا من أن جيبوتي قد لا يكون لها رأي في تقرير مصيرها مستقبلا. ونتيجة لذلك سعى المسؤولون الإثيوبيون لسنوات طويلة لإيجاد منفذ آخر لممارسة الأعمال بخلاف جيبوتي، وقد وجدوا الفرصة سانحة لفعل ذلك على ما يبدو بالتزامن مع موجة التدفُّق المكثفة للقوى شرق الأوسطية بحثا عن النفوذ في منطقة القرن الأفريقي، تدفُّق تعزَّز خاصة منذ الحرب التي أطلقتها السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي في اليمن منذ الربع الأول من عام 2015 التي جاءت مصحوبة مع تنافس خليجي تركي محموم على دمج القرن الأفريقي في نسيج الشرق الأوسط الجديد، وإعادة ترسيم الجغرافية السياسية الإستراتيجية للمنطقة. وعلى الرغم من أن السياسية الخارجية لأديس أبابا تجاه العرب ظلَّت مُتحفِّظة تاريخيا مخافة أن تُطوَّق البلاد من قِبَل القوى العربية المنافسة وفي مقدمتها مصر، فإن الديناميات المتغيرة التي خلقها التنافس المحموم بين دول الشرق الأوسط حول القرن الأفريقي منحت إثيوبيا فرصة لا تُقدَّر بثمن للمناورة، حيث سعت البلاد للاستفادة من انخراط مختلف دول الخليج العربي في المنطقة للالتفاف على عُزلتها البحرية وتقليل اعتمادها على ميناء جيبوتي، وقد فعلت ذلك في المقام الأول من خلال محاولة إثارة اهتمام شركائها العرب المحتملين بتجديد وتطوير موانئ أخرى في المنطقة، مثل ميناء بورتسودان في السودان، وميناء مومباسا في كينيا. لكن النجاح الأكبر لأديس أبابا في هذا الصدد وقع في ميناء بربرة في أرض الصومال، وهي دولة مستقلة عن الصومال بحكم الواقع منذ عام 1991 ولا تحظى باعتراف دولي، حيث نجحت أديس أبابا في إثارة شهية دولة الإمارات للاستثمار في الميناء المُهمَّش الذي اكتسب أهمية إستراتيجية مفاجئة بالنسبة لأبو ظبي ليس فقط بسبب تداعيات حرب اليمن، ولكن أيضا بسبب ضمانات إثيوبيا بتوجيه جزء من تجارتها والمساهمة في التمويل لرفع مستوى الميناء. في النهاية حصلت إثيوبيا على النتيجة التي تتوق إليها، ففي مايو/أيار 2016 وقَّعت شركة موانئ دبي العالمية اتفاقية لتشغيل وتطوير ميناء بربرة لمدة 30 عاما، ولاحقا، ضمنت إثيوبيا وجودها في الميناء من خلال صفقة خاصة مع موانئ دبي في مارس/آذار 2018 مُنِحت بموجبها إثيوبيا حصة بلغت 19% في الميناء، لتضع أديس أبابا بذلك اللبنة الأولى في طريقها الطويل لاستعادة الوصول إلى البحر، بخلاف تحقيق العديد من الأهداف الإستراتيجية الأخرى وعلى رأسها ربط المنطقة الشرقية لإثيوبيا، الصومالية عِرقيا في المقام الأول، مع أديس أبابا عبر استثمار 80 مليون دولار في طريق بطول 500 ميل يربط بين الميناء وبين مدينة “توجوشال” الحدودية الإثيوبية، وتوفير منفذ إضافي للتجارة وتصدير المنتجات الزراعية وجذب المزيد من الاستثمارات الخليجية في هذه القطاعات. بخلاف ذلك، خدمت اتفاقية ميناء بربرة حزمة من الأهداف الإقليمية بعيدة المدى لأديس أبابا، وعلى رأسها الحفاظ على عزلة إريتريا وإضعافها على المدى الطويل ربما بهدف ضمها مجددا في نهاية المطاف أو تحويلها إلى دولة تابعة على أقل تقدير، وتكريس الوضع الراهن للصومال المجزأ بعد الحرب الأهلية عبر كسر السقف الزجاجي للاعتراف الدولي بهذه الأقاليم من خلال دمجها في شراكات تجارية دولية، ناهيك بمنح أديس أبابا ذريعة للتدخُّل في شؤون هذه الأقاليم باستخدام مزيج من الضغوط المالية والسياسية. من وجهة نظر “آبي أحمد” فإن الصراعات المُلتهِبة مع الجيران التهمت موارد البلاد المالية والعسكرية ومنعتها من القيام بدور قيادي في بيئتها الإقليمية في ظل هذه الأجواء الجيوسياسية المتقلبة، شهدت إثيوبيا انتقالا سياسيا مفاجئا في إبريل 2018 إثر صعود رئيس الوزراء الشاب المنتمي إلى قومية الأورومو أبي أحمد حاملا أجندة سياسية طموحة يقع في القلب منها استعادة الوصول البحري لبلاده، وفي بادئ الأمر، كان أبي أحمد يرى -أو هكذا روّج لرؤيته- أنه لن يكون بإمكان إثيوبيا تحقيق هذا الهدف ما دامت مُتورِّطة في صراعات سياسية وحدودية مع معظم جيرانها بما يشمل الصومال وإريتريا، ناهيك بالحرب الأهلية في جنوب السودان المجاورة التي ألقت بظلالها الثقيلة على أديس أبابا في صورة جحافل ضخمة من المهاجرين. خلال الأشهر الأولى من حكمها، سعت الحكومة الإثيوبية لاستعادة زمام المبادرة الإقليمية عبر إنهاء مشكلاتها مع جيرانها وتصفية هذه الصراعات التاريخية على ما يبدو، وكانت البداية في يونيو 2018 حين أعلنت إثيوبيا أنها ستمتثل أخيرا لاتفاق الجزائر المُوقَّع عام 2000 لإنهاء الحرب طويلة الأمد مع إريتريا دون أي شروط سابقة، وهو اتفاق امتنعت “أديس أبابا” على مدار قرابة عقدين عن تنفيذ مقرراته بما في ذلك تسليم بلدة “بادمي” الحدودية لإريتريا، ومنذ ذلك الإعلان تبادل البلدان الزيارات الدبلوماسية، قبل أن يُوقِّعا اتفاقا لإنهاء الحرب برعاية خليجية تم بموجبه تبادل السفراء لأول مرة منذ انفصال إريتريا في التسعينيات. وعلى الجبهة الصومالية التي لا تقل تعقيدا، بالنظر إلى اندلاع القتال بين البلدين خمس مرات على الأقل منذ أوائل القرن العشرين، انتهجت أديس أبابا سياسات أكثر ودية تجاه جارتها ترتكز حول التكامل الاقتصادي وتعزيز التعاون الأمني، حيث عزَّزت القوات الإثيوبية حضورها في مهمات مكافحة الإرهاب في الصومال، وبالإضافة إلى ذلك، أعلنت إثيوبيا في يونيو 2019 أنها ستبدأ أول اختباراتها لإنتاج النفط الخام في منطقة أوغادين، على الحدود مع الصومال، مع خطط لبناء خط أنابيب لتصدير الهيدروكربونات من المنطقة، وهو مشروع من شأنه أن يساعد في استعادة الأمن على طول الحدود الإثيوبية الصومالية. أما في جنوب السودان، فقد لعبت أديس أبابا دورا حاسما في التوصُّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في حرب أهلية بدأت منذ عام 2013، وأسهمت في تدفُّق اللاجئين والمصابين عبر الحدود، قبل أن تتدخَّل إثيوبيا في عام 2019 لتسهيل التوصل إلى اتفاق سياسي لتقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين في السودان في أعقاب الإطاحة بالرئيس عمر البشير في إبريل 2019. من وجهة نظر العديد من المراقبين وقتها، كانت سياسات أديس أبابا التصالحية الجديدة هي الطريق الجديد الذي اختارت البلاد السير فيه لتحقيق هدفها القديم المُتمثِّل في تأكيد هيمنتها الإقليمية عبر استعادة الوصول إلى البحر، لذلك فإن جهود أديس أبابا السياسية جاءت مصحوبة دوما بمحاولات لاكتساب الوصول البحري إلى موانئ جيرانها، بخلاف اتفاقية ميناء بربرة السابق الإشارة إليها، سعى أبي أحمد خلال الأسابيع الأولى لتولّيه السلطة للحصول على وصول مُقنَّن إلى ميناء ديوراليه في جيبوتي بعدما دخل في مفاوضات مع الدولة المجاورة لتطوير الميناء وتشغيله تشغيلا مشتركا، وشملت المفاوضات إمكانية حصول أديس أبابا على حصة في الميناء مقابل حصول جيبوتي على أسهم في الشركات الإثيوبية المملوكة للدولة ضمن خطة الخصخصة الجزئية لأديس أبابا. وفي إطار سعيها الدؤوب والمستحدث لالتهام الموانئ، ولَّت أديس أبابا وجهها شطر كينيا، وفي مايو/أيار 2018، توصَّل البلدان إلى اتفاق حصلت بموجبه إثيوبيا على حصة من الأراضي في جزيرة “لامو” بوصفها جزءا من مشروع لامو بورت (ميناء لامو)، جنوب السودان – إثيوبيا للنقل، المعروف اختصارا باسم “لابسيت”، وهو مشروع نقل وبنية تحتية بتكلفة 24 مليار دولار وُقِّعَ في عام 2012، ولكن تأجَّل بسبب التأخير في التمويل ومشكلات الأمن في كلا البلدين، ولاحقا جاء اتفاق السلام مع إريتريا التي تتطلع أديس أبابا بموجبه للحصول على موطئ قدم في موانئ عصب ومصوع، وأخيرا جاءت وساطة إثيوبيا النشطة في الملف السوداني التي لا يمكن فصلها عن طموحات البلاد في الحصول على حصة في موانئ البلاد، وعلى الأخص ميناء بورت سودان. على السطح، كان الممكن النظر إلى كل هذه التحرُّكات على أنها مدفوعة بالرغبة في تنمية الاقتصاد أكثر من طموحات الهيمنة الإقليمية، لولا أنها جاءت متزامنة مع ذلك التعهُّد المُثير للجدل لرئيس الوزراء “أبي أحمد” لبناء سلاح بحرية جديد لبلاده، وعلى الرغم من أن البحرية الإثيوبية المُنتظَرة يمكن أن تساعد في حماية السفن التجارية الإثيوبية في ظل بيئة بحرية مُتقلِّبة، فإن المخاوف الأمنية والإستراتيجية ودوافع الجغرافيا السياسية تظل هي الحافز الأكبر وراء المشروع الطموح الذي دخل حيز التنفيذ بالفعل مع القاعدة الإثيوبية التي اتُّفِق عليها مؤخرا مع جيبوتي، والمُرشَّح أن يتوسَّع عبر إنشاء قواعد أخرى في الموانئ التي تسعى إثيوبيا لاختراقها في إريتريا وكينيا وأرض الصومال والسودان. لكن سياسة إثيوبيا التصالحية لم تستمر طويلا على ما يبدو، فبعد مرور عامين من حكمه، بدأ رئيس الوزراء أبي أحمد بالتورُّط في عدد من الحروب والنزاعات المُثيرة للجدل، على رأسها الحرب الدموية في إقليم تيجراي، ناهيك بالمناوشات الحدودية مع السودان والتلويح المتبادل بالحرب، وقد تسبَّبت هذه السياسات القسرية في تقويض شعبيته، وزرعت المزيد من الريبة حول المغزى الرئيسي لتحرُّكات إثيوبيا في المنطقة، وعلى الرغم من أن هذا الارتياب من المُرجَّح أن يجعل تحرُّكات البلاد لاستعادة نفوذها البحري أكثر صعوبة، فمن غير المُرجَّح أن تتراجع أديس أبابا عن طموحاتها، وهي تراهن -فيما يبدو- أن بمقدورها احتواء الآثار الجانبية لسياساتها القسرية في نهاية المطاف. في هذا السياق، هناك العديد من الضرورات الإستراتيجية التي تُفسِّر سعي أديس أبابا الحثيث لاستعادة وصولها البحري وامتلاك سلاح بحرية جديد، بادئ ذي بدء، تُدرك إثيوبيا أن جميع جيرانها في منطقة القرن الأفريقي يمتلكون سواحل كبيرة لكنهم يفتقرون إلى القدرة على استغلالها، في حين تفتقر أديس أبابا للسواحل لكنها تمتلك قدرات وموارد ليست متاحة لجيرانها، ويمنح هذا الوضع إثيوبيا العديد من المزايا، فمع امتلاكها للموارد اللازمة لتخصيصها لبناء سلاح بحرية فإن بإمكانها أن تضمن لنفسها رأيا مهما على الطاولة في صياغة الأهداف البحرية الإقليمية، ومع لعب بحريتها المُنتظَرة دورا في حماية حركة الشحن للدول المجاورة فإن بإمكانها تأكيد سيطرتها الإقليمية وتقديم نفسها بوصفها ضامنا للاستقرار بالنسبة لشركائها. بخلاف ذلك، مع وجود البحرية الإثيوبية في أكثر من دولة -كما هو مُخطَّط له على ما يبدو- فسوف يكون بإمكانها توفير الغطاء العسكري لمشروعها الطموح للتكامل الإقليمي، ناهيك بتعزيز أوراق اعتمادها شريكا رئيسيا للولايات المتحدة في المنطقة، وشرطيا أميركيا محتملا فيها، وهو ما سيمنحها مساحة كبيرة لإبراز نفوذها ومحاصرة طموح القوى المنافسة لها مثل أوغندا وكينيا، علاوة على امتلاك قدرة على الحفاظ على أمنها القومي من خلال إسقاط القوة خارج حدودها، وتقديم نفسها بوصفها طرفا في المعادلة الإقليمية الخاصة بالأمن البحري في القرن الأفريقي والشرق الأوسط، عبر المشاركة بقواتها في تأمين المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب. لكن الطموحات البحرية لإثيوبيا لا يمكن أن تُفصَل بحال عن الصراع الكبير التي تنخرط فيه البلاد مع مصر والسودان حول حصص مياه النيل وملف سد النهضة الذي دفع القاهرة هي الأخرى للإلقاء بثقلها في القرن الأفريقي سياسيا، وربما عسكريا، ففي إبريل/نيسان 2017 -قبل عام تقريبا من تولِّي أبي أحمد السلطة- زعمت تقارير صحفية صادرة عن جهات إريترية أن الحكومة المصرية دخلت في مفاوضات مع أسمرة لبناء قاعدة عسكرية مصرية في البلاد، فيما زعمت مصادر إثيوبية أن الحكومة الإريترية منحت مصر الضوء الأخضر لبناء القاعدة في مقاطعة نورا، ثاني أكبر جزر أرخبيل دهلك، على مساحة تُقدَّر بـ 105 كيلو متر مربع، على أن تستضيف القاعدة التي ستصبح الأولى لمصر خارج حدودها بين 20 إلى 30 ألف جندي مصري من بينهم نحو 3000 من أفراد البحرية المصرية. بالتزامن مع ذلك، أشارت مصادر صحفية صومالية إلى دخول مصر في مفاوضات مع جمهوريتَيْ الصومال وجيبوتي لبناء قاعدة عسكرية مصرية، ورغم أن أيًّا من هذه الجهود لم يُفصَح عنها رسميا بَعد، فمن المُرجَّح أن أديس أبابا كانت -ولا تزال- تشعر بالقلق من أي نشاط عسكري لمصر في فنائها الخلفي، خاصة مع احتمالية أن تستخدم القاهرة أي وجود لها في القرن الأفريقي لحماية حقوقها المائية عبر استهداف سد النهضة. كانت هذه المخاوف تجاه تحرُّكات مصر في القرن الأفريقي حاضرة دوما في أذهان المسؤولين الإثيوبيين، ومن المُرجَّح أنها كانت مُجسَّدة أيضا في تلويح رئيس الوزراء الإثيوبي باستعداد بلاده لحشد الملايين للحرب لحماية سد النهضة على حد وصفه، ومن ورائه تحرُّك أديس أبابا السريع لتأمين قاعدة على مدخل البحر الأحمر في جيبوتي، وهو تحرُّك أثار رد فعل فوريا من القاهرة لاحتوائه، ففي 4 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وعلى الرغم من أن مصر لم تُصدر أي بيان رسمي للتعقيب على تحرُّكات أديس أبابا، فمن المُرجَّح أنها تُراقب بقلق هذه التحرُّكات ليس فقط للدواعي المُتعلِّقة بملف سد النهضة ومياه النيل، ولكن أيضا لأن القاهرة لن تكون سعيدة بامتلاك قوة منافسة لها تاريخيا لقاعدة عسكرية تتحكَّم في البوابة الجنوبية لقناة السويس، على الرغم من أنها ترى التحرُّكات الإثيوبية مجرد مناورة سياسية من جانب أديس أبابا هدفها إرسال رسالة إلى القاهرة حول مدى قدرتها واستعدادها للمواجهة، وليس دليلا على الرغبة في خوض مواجهة مباشرة ضد مصر. تُدرك مصر الحقائق التي تُدركها إثيوبيا على ما يبدو، وعلى رأسها أن بناء قاعدة بحرية فعّالة هو أمر يحتاج إلى استثمارات كبرى ووقت طويل للقيام به، وأنه لن يحدث بين يوم وليلة، وإذا كانت هذه الحقيقة تنطبق على جهود إنشاء قاعدة عسكرية واحدة، فإنها أكثر انطباقا بشأن خطة أديس أبابا الطموحة لإنشاء سلاح بحرية كامل مع عدة قواعد عسكرية خارج الحدود، ففي نهاية المطاف، من المُرجَّح أن يكون المُضي قُدما في هذه الخطة عملية طويلة ومُكلِّفة، خاصة إذا كانت إثيوبيا جادة في بناء أسطول يتمتع بقدرات بحرية متطورة وليس مجرد حشد حفنة من زوارق الدورية. بعبارة أخرى، هناك الكثير من الصعوبات التي تنتظر جهود إثيوبيا لإعادة تأسيس قواتها البحرية، فعلى الرغم من أن البلاد كانت تُدير قوات بحرية متطورة نسبيا مطلع التسعينيات، وعلى الرغم من امتلاكها لأعداد لا بأس بها من البحارة المدربين العاملين في دول شرق آسيا، فمن المؤكد أنها ستحتاج إلى بعض الوقت لتدريب الضباط والفنيين وإنشاء الهياكل الإدارية والعسكرية وجلب الخبراء والمستشارين وافتتاح مدارس وأكاديميات التدريب، فضلا عن الكم الضخم من الأموال والترتيبات السياسية المطلوبة لشراء السفن والقوارب وصيانتها وحيازة الأسلحة المناسبة وبناء وتشغيل القواعد العسكرية والمنشآت. بخلاف ذلك، من المُرجَّح أن التحديات الداخلية التي تواجهها البلاد سوف تضع المزيد من القيود على خططها البحرية الجديدة، فمع تصاعد الاضطرابات داخل الأقاليم المختلفة، سوف تجد أديس أبابا نفسها مضطرة لتوجيه المزيد من الموارد والقوى العاملة للعسكرية لحفظ النظام الداخلي كما حدث بالفعل في تيجراي، ناهيك باحتمال انفجار الأمور على الجبهات الحدودية المختلفة للبلاد، وكلها أمور من المُرجَّح أن تضع ضغوطا على مشروعات البلاد الأكثر طموحا مثل تطوير البحرية. ويبقى السؤال الأكبر الذي سيتعيَّن على إثيوبيا الإجابة عنه هو الوصول إلى أفضل طريقة للتفاوض بشأن أحلامها البحرية مع جيرانها، وعلى وجه الخصوص مع كلٍّ من جيبوتي والصومال وإريتريا، فعلى الرغم من أن أديس أبابا توصَّلت إلى اتفاق مبدئي لإنشاء قاعدة في جيبوتي بالفعل، فإن الدولة الصغيرة تستضيف بالفعل عددا كبيرا من القواعد العسكرية الأجنبية، وهي لا تُمانع في استضافة المزيد منها فيما يبدو، بما في ذلك احتمالية استضافة قاعدة مصرية إذا لزم الأمر، فضلا عن احتمالية خضوعها لضغوط من بعض القوى الكبرى لتحجيم نشاط إثيوبيا، ما قد يخلق معضلة إستراتيجية طويلة الأمد لأديس أبابا. بالمثل، لا يبدو طريق إثيوبيا لفرض وجود عسكري في الصومال مفروشا بالورود، فعلى الرغم من تحسُّن العلاقات بين البلدين نسبيا خلال العامين الأخيرين، فإن وجود إثيوبيا في بربرة دون إذن الحكومة المركزية في الصومال من المُرجَّح أن يعكس مسار هذا التحسُّن النسبي في العلاقات، وحتى لو أذنت الحكومة الصومالية لأديس أبابا بإقامة قاعدة عسكرية على أراضيها، فسوف تواجه هذه القاعدة صعوبات لوجيستية كبيرة في ظل قلة طرق النقل المُعبَّدة في الصومال والخطر الذي تُمثِّله حركة الشباب الصومالية. على الجبهة الإريترية يبدو أن الأمر لا يقل تعقيدا بالنسبة لإثيوبيا، فعلى الرغم من اتفاق السلام الهش الذي يربط البلدين حاليا، من غير المُرجَّح أن تكون أسمرة راغبة في منح خصمها طويل الأمد وجودا عسكريا على أراضيها، ويمكن لأي ضغوط في هذا الاتجاه أن تُهدِّد اتفاق السلام الهش بين البلدين، ونتيجة لذلك، ربما يكون مسار العمل المُرجَّح إثيوبيًّا هو متابعة المفاوضات على هذه الجبهات جميعا وتجنُّب وضع بيضها كله في سلة واحدة حتى تستطيع مباشرة خططها البحرية الطموحة حتى لو انهارت علاقاتها مع إحدى الدول المُرشَّحة. في ضوء ذلك كله، من الواضح أن إديس أبابا تُدرك أن طموحاتها البحرية تتجاوز قدراتها بوصفها قوة إقليمية ناشئة تجد أن عليها اليوم أن تتحدى عوائق الجغرافيا وتجارب التاريخ وتعقيدات الجيوسياسية، وأن الأمر قد يستغرق سنوات وربما عقودا ليتحقَّق -إن كان مُقدَّرا له أن يتحقَّق بالأساس-، ولكن مجرد التلويح بذلك الأمر والسعي إليه هو أمر منسجم مع تطلُّعات البلاد لتأكيد سلطتها الإقليمية في منطقة تعاني من تزاحم في المنافسة وفراغ في القيادة يبدو أن أديس أبابا تتطلَّع لملئه اليوم، كما فعلت سابقا قبل عقود.
القاهرة : محمد السعيد
الجزيرة نت