مقالات متنوعة

نقطة القرار الأمريكي


(1)
على الرغم من الزخم الكبير الذي رافق الإعلان عن معالجة متأخرات ديون السودان للبنك الدولي، لكن تبقى هناك حاجة ماسة للوقوف على السياق السياسي الذي جرت فيها هذه التطورات، فالظاهر من المشهد أننا في خضم عملية اقتصادية خالصة ذات طابع إصلاحي فني بحت تتعلق بالاستجابة لاشتراطات قانونية ولائحية تمكّن السودان من استعادة درجة معينة من التطبيع مع مؤسسات التمويل الدولية، والمعنية في هذا المقام وهي صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي، والتي تتعلق في هذه المرحلة بمعالجة متأخرات الفوائد التعاقدية، وليست الديون ذاتها التي ستتم تخفيفها بنسبة معينة، وليس إعفاؤها بالكامل على مرحلتين تاليتين، والغرض من ذلك تلبية بعض شروط تأهيل السودان للاستفادة من المبادرة المعزّزة للدول الفقيرة المثقلة بالديون، وأيضاً تمكين السودان من استئناف الحصول على منح من المؤسسة الدولية للتنمية..
(2)
ولكن لماذا أصبح هذا الأمر ممكنا الآن؟ فقد ظل المسؤولون في الصندوق والبنك الدوليين منذ العام 2012 يؤكدون أن السودان مستوف للشروط الفنية للاستفادة من مبادرة هبيك، خاصة عقب تقسيم السودان والاتفاق على الترتيبات المالية الانتقالية ومن بينها الخيار الصفري المستند على تحمل السودان الشمالي لديون السودان الكبير كافة مقابل وعد من المجتمع الدولي بالاستجابة لها خلال عامين من خلال دعم لتحرك مشترك من دولتي السودان بهذا الخصوص، وانتهى العامان، وتم تمديدها لعامين آخرين، ثم دخل الملف في حالة تجميد.
لم يتم الوفاء بوعد المجتمع الدولي في حينه لأن المسؤولين في الصندوق والبنك الدوليين كان يهمسون دائماً في كل عام في الاجتماعات السنوية في آذان المسؤولين الحكوميين أنذاك بأن الاستجابة للشروط الفنية وحدها لا تكفي فهناك شرط سياسي غير معلن لا يمكنه تفاديه وهو الفيتو الأمريكي على قرارات هذه المؤسسات، ولا حل قبل التطبيع مع واشنطن.
(3)
ولذلك من المهم جداً إدراك أن هذه التطورات الأخيرة في تحريك عجلة العلاقات السودانية مع مؤسسات التمويل الدولية، ما كان لها أن تتم لولا القرار الأمريكي السياسي برفع الفيتو، أي نقطة القرار السياسي الحقيقية وليست نقطة القرار الفني المطلوبة ضمن اشتراطات هيبك، فالقرض التجسيري، وكان لافتاً في بيان وزارة الخزانة الأميريكية التأكيد على أنه لم يكلف دافع الضرائب الأمريكي شيئاً، ذلك صحيح فالأهم في هذه الخطوة كان القرار السياسي، وليست العملية الحسابية الشكلية، ذلك أن الدافع الفعلي للمتأخرات هو البنك الدولي نفسه “الذي قام بسداد القرض التجسيري باستخدام تمويل من البنك الدولي من خلال عملية سياسة التنمية لإعادة المشاركة والإصلاح التي وافق عليها البنك الدولي” كما ورد بالنص في “بيان الحقائق” الصادر عن مجموعة البنك الدولي، لم يشر بيان البنك إلى منحة بل استخدم مصطلح “تمويل”، والسؤال الذي لا يزال قائماً ما الذي يعنيه ذلك على الرغم من وصف المسؤولين في الخرطوم الأمر بأنه منحة، وهذا يشي بأن الأمر لا يزال ملفوفاً ببعض الغموض وقد سعيت شخصياً عبر عدة طرق للحصول على توضيح إلا أنني لم أجد إجابة وافية لذلك، لا سيما ما تعنيه “سياسة التنمية لإعادة المشاركة والإصلاح التي وافق عليها البنك الدولي” التي تم الاستناد عليها في تمويل دفع المتأخرات وهو ما نرجو أن يفيدونا بشأنه.
(4)
على العموم من المؤكد أن القرار بشأن هذا الحراك في الإدارات العليا للمؤسستين الجارتين بواشنطن هو قرار أمريكي بامتياز، وليس قراراً مؤسسيا فنياً نابعاً منهما، خاصة أن تطبيق البرنامج المراقب من الصندوق لا يزال مضطرباً، وكان لافتاً القفز في تقييمه إيجابياً بهذه السرعة، هو ما يؤكد أن القرار السياسي الأمريكي هو الذي فك العقدة.
ولذلك يبقى السؤال لماذا قررت الإدارة الأمريكية الآن وليس في أي وقت مضى، وتأخر حتى بعد عامين من التغيير ازدادات فيها الأحوال الاقتصادية سوءاً، على افتراض أن الفيتو كان متعلقاً فقط بشأن علاقتها أو موقفها من النظام السابق، لا شك أن المسألة لها علاقة بترتيبات أبعد مما يظنه الكثيرون.
(5)
من المؤكد أن دولة عظمى في مكانة الولايات المتحدة لا تتخذ قراراتها من باب المجاملات الدبلوماسية لأي دولة مهما كانت، ولذلك من الطبيعي وضع ذلك في خانة أنه سيخدم بالضرورة المصالح الأمريكية في السودان وفي تأثيره وتأثره بتفاعلات محيطه الإقليمي وعلاقة ذلك بالتأكيد باعتبارات المصالح والأمن القومي الأمريكي في المجال الحيوي بأكمله، وهو ما يحتاج إلى تحليل معطيات مرئياته ودوافعه في السياق السوداني والإقليمي، وإلى أي مدى تعي الحكومة السودانية أن الأمر أعمق أثراً من مسائل اقتصادية فنية، من الواضح أن المنطقة ستشهد تحولات استراتيجية وترتيبات وشيكة ستعيد تشكيل توازناتها وعلاقاتها ومصالحها، فما هو موقع الخرطوم من الإعراب في سباق إعادة رسم خارطة المنطقة؟ لا يبدو أن أحداً منتبه لذلك.

صحيفة السوداني


تعليق واحد