مقالات متنوعة

يا الماشي لي باريس

د.الطيب حاج مكي

في الغناء السوداني القديم تشكل (التورية) أحد أهم المحسنات البلاغية لتحميل الكلمات بالمعاني والإشارات. (وأغنية يا الماشي لباريس جيب لي معاك عريس شرطا يكون لبيس ومن هيئة التدريس) ، محملة بتورية بلاغية مدهشة هربت من (التابو) الاجتماعي بتتوسل مجهول وسؤاله أيضًا مجهول ووضع شروطًا للمجهول. ومؤتمر باريس الذي استضافته العاصمة الفرنسية باريس يومي 17-/18-5-2021م ، كان العريس وكان نغم القصيدة التي ردد صداها السودان الرسمي والشعبي والثوري. وفيه تفرغ الرئيس ماكرون لاستقبال القيادة السودانية والحضور العربي الأفريقي والغربي. استهدف المؤتمر دعم اقتصادات القارة الأفريقيه المتأثرة بجائحة كرونا بعامة ولكنه كان أقرب للتغزل في السودان وترديد نغمة (يا الماشي لباريس) ، فقد خصص المؤتمر يومًا كاملاً للتداول في دعم الاقتصاد السوداني ومدح ثورته ومخاطبة ملفات سودانية بحته مثل الانتقال الديمقراطي وسبر آفاق الاستثمار وتسوية ديون السودان.

هكذا أشاع انعقاد المؤتمرفي حد ذاته ، روحًا من التفاؤل ورفع من التوقعات الشعبيه. ثم جاءت مخرجاته في لتمثل بداية قطيعه مع أزمان الفشل والعزلة (المجيدة). لا عجب أن وجدت مخرجات المؤتمر ترحيبا شعبيًا مستحقا بما منح الحكومة الانتقاليه بشقيها درجة من النجاح. مع تسمح أجواء الديمقراطيه ببروز أصوات ناقدة أغلبها يختبئ خلف العجز السياسي والعبث والتكاذب. إنها منصة لإطلاق أدخنة لتلويث الفضاء بالتشاؤم بدلا من ترديد نغم الماشي (لباريز)فهي تهوى تعميم اليأس وتوزيع القنوط والاحتفاء بالمآسي . أحيانًا تدبر بعض الفبركات والقول بأن المؤتمر لقي فشلاً ذريعاً في كل هدف أعلنته الحكومة الانتقاليه. في الحقيقة هؤلاء يصح أن نطلق عليهم أعداء النجاح وقد صار الشعب السوداني يعرفهم من لحن القول ومن أعلامهم وشعاراتهم. ومع أن أصواتهم أنكر الأصوات وتضم شركاء متشاكسون لكن هجاء الحكم الانتقالي ظل يجمعهم.

إذ كل يبرر وجود الآخر فالفلول يبررون وجود النفعين والزبائن وبعضا من الذين ظلوا يذهبون للحج فيما الناس أفاضت من عرفات. إن النصح السديد الذي يمكن اسداءه لبعض أعداء النجاح هو أن السودان جرب نماذج اقتصادية تداعت في حواضنها وبالتالي لا يصح تخويفه (بالبعاتي الغربي) لأنه ببساطة لن يندفع لقبول النموذج الكوري الشمالي أو(الكوبي). هذا لا يعني أن كل الأصوات التي تنتقد المؤتمر، صيحة على مؤتمر بارس فهناك مجموعة من الناس بسبب ارتفاع توقعاتهم أملوا طلوع الشمس قبل غروب يوم مؤتمر باريس وتطلعوا ببراءة لإعفاء السودان من دينه وتطلعوا لتدفق القروض وتحول السودان لقصة نجاح نموذجية بضربة لازب.

إن انتقاد الحكومة الانتقاليه يجب أن يجد الترحيب ولكن في ظلال (لا يجرمنكم شنآن قوم أن تعدلوا) وتقولوا أن مؤتمر باريس يعتبر إنجازًا للفترة الانتقاليه. أقلها استطاعت الحكومة حشد دول العالم ومؤسسات عالميه للاجتماع في مكان واحد وإعلان دعم للسودان. بما يشمل المستوى الاقتصادي والسياسي ومجال تسوية الديون. مثلما أزال الاجتماع العزلة التي كان يعيشها السودان. ولهذا ينبغي اعتبار انعقاد المؤتمر في حد ذاته إنجازًا يحسب للحكم الانتقالي، والشيء بالشيء يذكر فإن المجتمعين لم يأتوا من فراغ وإنما أدركوا عوامل النجاح استناد لرؤية علمية كان قد خطها الدكتور إبراهيم البدوي. فالدكتور إبراهيم صاحب صيت ومكانة ولهذا كل من اطلع على الأسس التي وضعها راهن على صوابية طرجه في ليس حلحلة متأخرات الدين ولكن في تحقيق عائد استثماري. وللبدوي يعود الفضل في ابتداع فكرة القروض التجسيرية سواء تلك التي جاءت من الولايات المتحدة وبريطانيا والسويد وإيرلندا أو القرض الفرنسي التجسيري الأخير البالغ 1.5مليار دولار.

ومهما يكن فإن مؤتمر باريس فتح الباب واسعاً لكي يستعيد السودان وجهه المفقود ويستفيد من التسويق الدولي والترحيب ومن القروض التنموية والمنح التي لم يكن يستطيع الاستفادة منها فيما سبق . والأهم أن ما تحقق من من مؤتمر باريس تأكيد سداد آخر المتأخرات عبر القروض التجسيرية مما سيؤهل السودان للدخول في برنامج إعفاء الدول الفقيرة المثقلة بالديون(Heavily indebted poor countries (HIPC) وعندها سينتقل اقتصاد السودان من قائمة (برنجي) الدول الفاشلة لمربع يتجاوز فيه حفرة ديون السفاح نميري وكل سفاح. ومن البشريات الإضافية للمؤتمر اتباع الرئيس الفرنسي القول العمل بإعلانه أن فرنسا لا تلتزم بقرض تجسيري للسودان بمبلغ 1.5 مليار دولار فحسب وإنما بإعفاء ديونها على السودان. مع ذلك تبقت ديون ثنائيه وتجارية لها أثرها القريب والبعيد. ومن حسن الحظ ، أن دولاً عربية شقيقه بقيادة المملكة السعودية والكويت ودول الخليج الأخرى صرحت بأنها توافق على شطب ديونها على السودان أو هيكلتها، مع ذلك تحتاج الحكومة الانتقاليه لجهد إضافي لعلاج هذه الديون، وأفضل السبل التواصل مع الدول الصديقه وبنوكها ومع المؤسسات التمويليه ذات الصلة لتسوية أي متأخرات أو إعادة جدولتها ففي ذلك عودة للمصداقية ولاستقامة العمل المصرفي. ويُرجى أن يتم ذلك قبل عقد مؤتمر دعم الاقتصاد السوداني والتحول الديمقراطي المقرر له في الربع الأول من عام 2022م بالولايات المتحدة الأمريكية. مثلما تحتاج الحكومة الانتقالية للركض ومسابقة الزمن لترتيب وتفعيل خططها للمؤتمر الثاني باليابان في شهر أكتوبر 2022م فإن فعلت سيكون السودان قد انطلق في آفاق النمو من جديد.

إن من المطلوبات العاجلة من الحكم الانتقالي تهيئة المناخ الاستثماري وتفعيل الخدمات الإلكترونية ولو بإصدار ترخيص ثالث لشركات عالمية تستطيع توفير خدمات مواكبة تحسن من أداء الشبكة الالكترونية السودانية وبالذات فيما يتعلق بالخدمات المصرفية. ومن جهة لابد من أصلاح حال البنوك السودانية نفسها لأنها في أغلبها تحولت لدكاكين للمتاجرة في السلع والمضاربة بالدولار، وتخريب الاقتصاد والتخلي عن أي دور استثماري. إن إصلاح القطاع المصرفي أضحى أولية تستلزم رفع رأسمال البنوك المرخص لها بدون استثناء ودفعها لتحديث كادرها وخدماتها حتى تستطيع منافسة المصارف الأجنبية. ولا شك تدرك الحكومة الانتقالية أنه ثبت علميًا بأن جودة الخدمات تتولد من التنافس الحميد. وبالمثل فإن من شروط تهيئة بيئة الاسثمار وضع آليات فعالة لتطبيق قانون الاستثمار الجديد وتأكيد ممارسات النافذة الواحدة وكبح جماح البيروقراطية الإدارية فهي المدخل للفساد الإداري وللرشاوي. وتطبيق القانون يستدعي تفعيل أدوار المفوضية القومية لمكافحة الفساد وتمكين الصحافة الاستقصائية من الاقتباس من تجارب الدول التي انتقلت بفضل الشفافية من قائمة دول العار (والسرقة) إلى دول الحوكمة الراشدة.

ومن المطلوبات الملحه، إكمال الهياكل الدستورية. إذ لا يصح التعلل بأن الفترات الانتقاليه في السودان فيما سبق لم تكن بحاجة لمجالس تشريعية لأن طول عمر الحكم الانتقالي الحالي استدعي وضع المجلس التشريعي في قلب الوثيقة الدستورية فهو أداة الرقابة والتشريع ومحاسبة المسئولين. ومن المطلوبات إعادة تشكيل مفوضية السلام وتسريع الخطى بدمج الجيوش والمليشيات التي انتشرت في بلادنا انتشار (الكرونا) في الهند، فهذه خطوات ستجعل (الماشي لباريس) لحن يردده الثوار وهم في الطريق لبلوغ المؤتمر القومي الدستوري والتحول الديمقراطي العائد وراجح.

صحيفة التحرير

تعليق واحد

  1. انت ما سمعتا ؟ هسي الغنية ما قلبوها بقت تقول يا الماشى لي باريس جيبلي معاكا كديس شرطا يكون دسيس ومن هيئة الترسيس . كلامك غايتو بتاع زول متفائل وبتاع انشا . وكمان عملت لينا مؤتمر في امريكا وواحد في اليابان ؟ طيب وين باقي دول العالم ؟ وين بريطانيا ووين كندا ووين ايطاليا ووين المكسيك ووين نيكاراقوا ووين جزر القمر ووين تشاد ووين يوغندا باختصار كدا وين باقي دول العالم ؟ قعدت تفتش في دول العالم والمؤتمرات ونسيت داخل بلدك وما سالت نفسك وينا قدرتك الداخلية على انعاش اقتصاد بلدك ووينوا اعدادك لمكونك البشري الذي سيقود وعبر راس المال الوطني اكرر راس المال الوطني وليس الاجنبي الذي سيقود النهوض الاقتصادي وبناء القدرات ؟؟؟!!! وهل سمعت او سمع احد ان هناك دولة ما نهضت بالمؤتمرات ورؤوس الاموال الاجنبية بدون ان يكون لديها قدرات بشرية داخلية ورؤوس اموال وطنية قوية تقود التنمية كما هو حالنا الان ؟؟؟ وهل يتم بناء القدرات البشرية الداخلية ورؤوس الاموال الوطنية عبر عزف الموسيقي الكلامية الانشائية والتمنيات ؟؟؟ انشاء الله يكون وضح ليك لماذا نحن ومنذ الاستقلال ندور في حلقة مفرغة ونطحن في الهواء (ولا نلقى باللوم فقط على الانقاذ وحدها مثل اصحاب الغرض السياسي) ؟؟؟ ما حك جلدك مثل ظفرك !!!!!! …..