المؤتمر الشعبي التائه
بعد ٧٢ عاماً على تأسيس أول خلية لتنظيم الإخوان المسلمين في السودان، وبعد العديد من التقلبات الفكرية والنظرية والحركية انتهى التنظيم الذي حكم شريحة واسعة من مواطني البلاد من مقاعد المعارضة (ما قبل مايو) ومن مقاعد المشاركة (خلال عهد مايو) وحكم البلاد كلها بالاحتكار لثلاثة عقود في عهد الإنقاذ، انتهى إلى ماكينة لا تكف عن إصدار البيانات!
ومن الجهاد ضد الصليبيين واليهود والغربيين، ومن مشروعات تصدير التجربة إلى مصر وإرتريا وتونس والجزائر وفلسطين، ومن المشاركة في الجهاد الأفغاني والبوسني، أكمل حزب المؤتمر الشعبي (السابق) مشروعه الجهادي أمس بإصدار بيان ضد إدارة منصة التواصل الاجتماعي (فيسبوك) تدين بأشد العبارات إغلاق صفحته على المنصة وحرمانه من نشر الصور الجهادية.
قال كاتب البيان “لقد أصبحَ العالمُ الافتراضي اليومَ في بِلادِنا الوسيلةَ الوحيدةَ التي تُمارسُ فيها الأحزابُ وَمنظماتُ المجتمعِ المَدني نَشاطهَا السياسي بِحريةٍ تامةِ دُونَ تَدخّلٍ مِن النظامِ الحَاكمِ إلا مَا نَدر ، ذَلك لأنّ النظامَ قَطعَ الطريق أمامَ المُعارضين للظهورِ في أيِ قَناةٍ تلفزيونيةٍ أو صَحيفةٍ ورقيةٍ أو أيِ منبرٍ رَسمي، فلَم يَعد هُناك منصةٌ إعلاميةٌ للصوتِ المُعارضِ سِوى الميديا وَالإعلامِ الالكتروني” ومن الواضح أن كاتب البيان لا يعرف بالضبط معنى مفردة (ميديا) وقد قام بحشرها في بيان الاستعطاف هذا طلباً للحداثة والقربى مع الغربيين الذين تأسس خطابه على معاداتهم.
بعد ثمانية عقود يعجز الحزب العتيق الكبير عن الوصول إلى الجماهير بشكل مباشر، وعن إصدار صحف سرية أو علنية غير مرخص بها كشكل من أشكال المقاومة، وإنشاء صفحات الكترونية خاصة، والتحايل على منصات الإعلام الجديد، ويتكفف الآن الناس – أعطوه أو منعوه – من أجل الإبقاء على صفحته حية على الفيسبوك.
منذ وفاة مؤسسه الراحل الشيخ حسن الترابي فقد حزب المؤتمر الشعبي البوصلة وصار تائهاً ما بين موائد سلطة خصمه القديم (المؤتمر الوطني) أو انشقاقاته الداخلية غير المعلنة؛ بحيث صارت كل جماعة تعمل وفقاً لما يروق لها. رأينا الشيخ إبراهيم السنوسي مساعداً للبشير ومنسوبي حزبه يتظاهرون ضد البشير نفسه، ورأينا الدكتور علي الحاج يقاتل من أجل الحصول على نصيب لجماعته المستضعفة من سلطة كان الجميع يدرك أن أيامها الباقية لن تكفي للحصول على التمتع بمغنم جديد.
صارت ماكينة المؤتمر الشعبي تصدر بياناتها في كل القضايا بالتركيز على تونس، ومصر، وأفغانستان لكنها لا تدير نشاطاً ذا أثر من أجل الضغط لإطلاق سراح قادة الحزب وعشرات الأبرياء في سجون السلطة، ولا تهتم بإعادة التفاعل الخلاق مع الأزمة السياسية الخانقة في البلاد.
يمارس المؤتمر الشعبي السياسة هذه الأيام وهو يرنو ببصره إلى السلطة من أجل عدم إغضابها وترك الباب مفتوحاً لها للمصالحة وما قد يتبعها من مشاركة بعد أن تأكد لها أن د. جبريل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة لم يعد قادراً على حملهم معه إلى داخل القصر كما حملوه إلى الغابة. مقدرة حركة جبريل لم تعد تفي حتى بتسكين جماعته الأقربين وهو يتلقى – في صبر كل يوم – التعريض به من الأقربين والأبعدين.
قبل الفرح بعودة طالبان إلى كابول، يحتاج المؤتمر الشعبي إلى إعادة بناء مؤسساته، وضبط خطابه، وتحديد أولوياته، والعودة إلى الجماهير على الأرض وليس السعي وراء حساب على الفيسبوك يقل متابعوه عن مهرج مرح أو مغنية تنقصها الموهبة أو (لايفبوي) يتحدث كل يوم ولا يقول شيئاً.
هذه محاولة.. لنهدي للمؤتمر الشعبي بعض عيوبه ونذكره بأنه ليس محظوراً بموجب أي قانون وأن السلطات، على رعبها من الخصوم، لم تهتم – حتى الآن – بوضع الحزب على قوائم الممنوعين من العمل السياسي رغم العسف والضيم يوم قاعة قرطبة، لكن من قال إن العمل السياسي كله مكاسب ووظائف؟
محمد عثمان ابراهيم
صحيفة اليوم التالي
علهم يستيقظوا من ثباتهم العميق.