الكابلي.. زولَك دي جَمَل حَواظَة
• حدث هذا منذ زمنِ بعيد، حين كانت تسجيلات الأغاني نادرة كأسنان الدجاج. كنتُ أستمع للفنان عبدالكريم الكابلي يغني أغنية “زمان الناس” وجاء أحد بلدياتي، هؤلاء القوم القادمين من البادية لأمدرمان لأمر جلل لا يطيقون المدينة ولا غناءها. يدخل الواحد منهم أمدرمان على عجل ويخرج على عجل. جلس بجانبي وقد مضى من أغنية زمان الناس أغلبها، وكانت الأوركسترا تعزف الكوبلية الطويل الذي يسبق مقطع: غريب والغربة أقسى نضال/ غريب والغربة سترة حال، لو تذكر عزيزي القارئ.
• جلس هذا البدوي يرهف السمع، وحين لحق الكابلي بالأوركسترا علّق قائلاً: (زولك دا جمل حواظة.. بلاحق من بعيد.) فهمت قصده وأعجبني التشبيه البديع وتمنيتُ لو ألتقيتُ يوماً بالكابلي لأحكي له رأي هذا البدوي فيه، ولأشرح له وجه الشبه البديع خاصة وأنه – طيب الله ثراه – كان من عتاة محبي وناشري الثقافات السودانية أو ما يٌطلق عليه – خطأ – التراث. لم نلتقِ ولكن الكابلي معنا، دائماً، بأغانيه البديعة وسيظل في سجل الخالدين بما قدم من بديع الغناء والموسيقى.
• جمل الحواظَة – لغير الناطقين بها – وأصلها الحواضة وهي من حوض(بدو كردفان ينطقون الضاء ظاء وربما يفعل ذلك غير بدو.) إذن جمل الحواظة هو جمل يتم انتقاؤه، بعناية، من وسط الجمال لمهمة خاصة. ما هي هذه المهمة؟ حين تسقط الأمطار في موسم الرِشاش بعيداً يتم إرسال فرقة من الرعاة العارفين لموقع سقوط المطر، وهؤلاء هم الحواظة يسرعون ويقطعون مسافات طويلة. في الوهلة الأولى الجمال تتقدم عليه ثم لاحقاً ، بطول المسافة، يلحق ويسبق الجمال إلى موقع الأمطار ويكون صاحب الحوض الأول. نسأل الله للكابلي أن يرد الحوض مع سيدنا محمد، الصادق الأمين.
• وقد وجدتُ معنى قول البدوي في شعرٍ قديم للشاعر البدوي صالح أبوشنيب، أورده هنا، رغم علمي أن القارئ سوف يجد صعوبة في فهمه. قال أبوشنيب:
عاسراتَك على البتعاتبن ما ردَّت/ وجمامتك على حوش المعنقل ندَت/
بتسوي تصلب الجفلت رِوينتو اتعدَت/ اشبوب صبني و(الحواظة) عليهو انقدَت. والمقطع الأخير يعزز معنى الحواظة وجمل الحواظة.
• هذا رأي البدو في الكابلي، فما هو رأي أهل الحضر. يقول الكاتب موسى حامد عن قيمة الكابلي الفنيّة:( تستند قيمة عبد الكريم الكابلي الفنية إلى تجربته البديعة في التأليف الموسيقي اللحني، والشعري لأغنياته، إذْ كتب العديد من الأغنيات التي تغنى بها، ونالتْ ولقيت رواجًا واستحسانًا لدى المستمعين. وصارت حديثهم، ومتنفس عواطفهم، وعباراتهم التي يكتبونها على خلفيات سيّاراتهم، مثل: زمان النّاس، كلّميني يا مرايا، أكيد حنتقابل، زينة وعاجباني، تاني ريدة كمان جديدة، وغيرها وغيرها الكثير.)
• بفقده، ينطوي فصل كامل من كتاب الغناء السوداني، رحم الله عبدالكريم الكابلي، عدد الحصى .. عدد الشجر.
محمد المبروك
صحيفة اليوم التالي
حبيت الريح بالسودان ولن يعود مجددا وين قمر دورين