تحقيقات وتقارير

(3) أعوام على الثورة السودانية.. ما الذي تغير عن حكم البشير؟


منذ إسقاط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في أبريل/نيسان 2019 لم تتوقف المظاهرات في السودان، بل استمرت خلال المرحلة الانتقالية اللاحقة، وانطلق آخرها أمس الأحد في الذكرى الثالثة للثورة بالعاصمة الخرطوم والعديد من عواصم ومدن أقاليم البلاد.

ولم يكن خروج المتظاهرين الاحد احتفالا بإنجازات الثورة وإنما للاحتجاج على الإخفاقات الكبيرة التي لازمت مسيرتها، إذ لا يزال المحتجون يرفعون شعارات “الحرية والسلام والعدالة والمطالبة بمدنية الدولة والحكم”، وهو ما يطرح السؤال الأكبر عن حصاد سنين من النضال والدماء والسجون والتشريد والإقصاء السياسي الذي لازم فترة حكم البشير.

وعشية مظاهرات 19 ديسمبر الجاري -التي خرجت منددة بحكم العسكر واتفاق 21 نوفمبر الموقع بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك- حذر الأخير في خطاب بمناسبة الذكرى الثالثة للثورة قائلا “إننا نواجه اليوم تراجعا كبيرا في مسيرة ثورتنا يهدد أمن البلاد ووحدتها واستقرارها، وينذر ببداية الانزلاق نحو هاوية لا تبقي لنا وطنا ولا ثورة”.

وسبق لحمدوك قبل حل حكومته ووضعه قيد الاعتقال المنزلي في أكتوبر الماضي أن طرح عدة مبادرات للخروج من الواقع السياسي المتأزم بعد الثورة.

يرصد مراقبون ما يمكن اعتباره انجازات تحققت في السنوات الثلاث من عمر الثورة السودانية، ويجملونها في خروج السودان من العزلة الدولية سياسيا واقتصاديا، وبالمقابل يختلفون في تقييم ما تحقق على الصعيد الداخلي من شعارات الثورة في “السلام والحرية والعدالة”، خاصة بعد إجراءات قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوب الماضي، والتي وصفها بـ”تصحيح مسار الثورة” ووصمها المعارضون له بـ”الانقلاب العسكري” على الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية.

وبينما يشير البعض إلى ما تحقق من إنجاز على صعيد ملف السلام بالتوقيع على “اتفاق جوبا” بين الحكومة والحركات المسلحة يتهكم آخرون وهم يرون دماء المواطنين لا تزال تسفك في مناطق دارفور، وسط تعثر تطبيق الاتفاق على أرض الواقع في مساراته المختلفة، ويبدو الاختلاف واضحا في ملفات أخرى كالعدالة والحريات.

بدوره، يقول المحلل السياسي ماهر أبو الجوخ إن أكبر إنجاز حققته الثورة هو كسر العزلة الدولية وإخراج السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب.

ويرى أبو الجوخ – أن هذا فتح الباب أمام السودان للاستفادة من مبادرة “هيبيك” (أطلقها البنك الدولي لتخفيف ديون الدول الفقيرة عام 1996)، والحصول على وعد بإعفاء الخرطوم من 25 مليار دولار من الديون المتراكمة، واستعادة عضويتها في صندوق النقد الدولي، وتأهيلها للتعامل مع المؤسسات المالية الدولية.

وتتفق أستاذة العلوم السياسية في جامعة الأزهري فاطمة العاقب مع أبو الجوخ في أن هذه الخطوة كانت مهمة للسودان، لما سيترتب عليها من آثار ملموسة على مسيرة التنمية السياسية التي ترتبط بشكل رئيسي بالتنمية الاقتصادية.

ويشير أبو الجوخ إلى أن الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة الانتقالية وضعت السودان في المسار الصحيح، راصدا “عدة مؤشرات إيجابية” لصالح الحكومة، منها تحويلات السودانيين العاملين بالخارج عبر النظام المصرفي الرسمي بدلا عن السوق الموازي بعد تعويم سعر الجنيه وثبات سعر الصرف.

وشهد السودان ما بعد الثورة -حسب أبو الجوخ- توسعا ملحوظا في المساحات المزروعة، مما رفع إنتاجية محصول القمح في العامين الماضيين، وكذلك محصول القطن، وكان تراجعها يؤهل البلاد لهجرة رؤوس الأموال لكنه نقلها من المضاربات في السلع إلى الأنشطة الإنتاجية ذات العوائد المجزية، غير أنه استدرك بأن “انقلاب” البرهان قطع الطريق أمام كل تلك الخطوات.

وفي اتجاه مختلف، يرى المسؤول الإعلامي لـ”تجمع الأجسام المطلبية” خالد طه أن الاقتصاد تحول في عهد الثورة من الاقتصاد الريعي إلى القائم على المنح والمعونات والقروض.

ويقول طه للجزيرة نت إن ذلك يقلل فرص التمسك بالإرادة المستقلة والقرار الوطني، مشددا على أن الاعتماد على نهج الاقتصاد الإنتاجي هو المخرج من الأزمة الراهنة و”القادمة بقوة”.

ويضيف أنه “لا توجد مقارنة بين ما كان عليه معاش الناس قبل الثورة وبعدها، الوضع الآن أكثر سوءا بلا أدنى شك، لكن هذا ليس بسبب أن نظام البشير كان أفضل، بل لأن رموزه وأجندته ومؤسساته بل وتحالفاته مستمرة حتى الآن”، وحذر من أن التردي الاقتصادي والانهيار باتا وشيكين، وقد “اقترب الوضع من حالة المجاعة”.

لكن أستاذة العلوم السياسية فاطمة العاقب تقول إنه “على الرغم من أن السياسات الاقتصادية كان وقعها صعبا على المواطنين فإن آثارها ستكون إيجابية على المدى القريب”.

وتلفت إلى إجراءات اتخذتها الحكومة الانتقالية أدت إلى تراجع معدلات التضخم وبداية تعافي الاقتصاد رغم تضرر الأسر محدودة الدخل.

من جهته، يُرجع ماهر أبو الجوخ الأثر السلبي للإصلاحات الاقتصادية على المواطنين إلى التأخر في تطبيقها، مشيرا إلى انعكاسها إيجابا على المنتجين والمصدرين دون المستهلكين.

ويعاني السودان من أزمة اقتصادية مستفحلة منذ عهد البشير لا تزال آثارها ممتدة بعد الثورة وإلى الآن، ففي أغسطس/آب 2018 بلغ معدل التضخم 66.82% وتجاوز 400% بعد الإصلاحات الاقتصادية التي بدأ تطبيقها مطلع 2021، ليبدأ في التراجع إلى أن وصل في أغسطس/آب الماضي إلى 387.56%.

وبلغ سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار الأميركي في مارس/آذار 2019 في السوق الموازي 71 جنيها، وحسب سعر بنك السودان 47.5 جنيها، ويبلغ صرفه اليوم 437 جنيها في البنك المركزي و450 في السوق الموازي.

وتقارن الأستاذة فاطمة العاقب بين فترة حكم البشير وفترة ما بعد الثورة في مجال العدالة والحريات، وتشير إلى تشابه في بعض الممارسات بين الفترتين في مجال الحريات والتضييق عليها، خاصة الاعتقالات السياسية في عهد ما بعد الثورة، مما يشير -برأيها- “إلى عدم قدرتنا على تحقيق العدالة وبسط الحريات”.

أما المسؤول الإعلامي لـ”تجمع الأجسام المطلبية” فيرى أن الذي اختلف بين العهدين هو احتفاظ الشارع بالقدرة على الخروج والاحتجاج ورفع مطالبه وقتما يشاء رغم أن المظاهرات لا تزال تقمع وتفض بالقوة.

لكنه قال إن هناك ملفات متعلقة بحقوق الإنسان لم تحرك، وما زالت المحارق الجماعية مستمرة، ولم يزل النزوع للسيطرة على الدور الفاعل في المشهد السياسي كذلك، وهذا يمثل تراجعا عن أهداف ومكتسبات الثورة، ويؤثر على ما تبقى من المرحلة الانتقالية “التي انتهت فعليا بانقلاب 25 أكتوبر”، وتلقي بظلالها القاتمة على الفترة التي تليها أيا كان شكل نظام الحكم القادم أو نوع وكم المكونات التي ستشارك فيه.

غير أن أبو الجوخ يعتقد أن ملف الحريات شهد تطورا إيجابيا في عهد ما بعد البشير، لافتا إلى غياب السودان عن تقارير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حتى لحظة “انقلاب البرهان”.

واعتبر تعاون السودان مع المحكمة الجنائية الدولية ومثول المتهمين في قضايا جرائم الحرب اختراقا مهما في ملف العدالة، مضيفا أن فترة الحكومة الانتقالية -قبل إجراءات البرهان- تمتعت فيها الصحافة والإعلام والأنشطة السياسية بالحرية، وكذلك الحركات المسلحة التي تحارب الحكومة.

ويقول مراقبون إن جرد حساب إنجازات وإخفاقات الثورة سيتواصل، فيما تستمر المظاهرات من أجل تحقيق أهدافها، وعلى رأسها “مدنية الدولة”، وتكوين المجلس التشريعي، وتعديل القوانين لتحقيق التحول الديمقراطي، وتشكيل المنظومات العدلية من مجلس قضاء ونيابة ومحكمة دستورية.

وفي سياق الإخفاقات، يتحدث المراقبون عن فشل حكومة ما بعد الثورة في إنجاز هيكلة القوات النظامية والمسلحة، وعدم حسم مصير شركات المنظومة الأمنية التابعة لولاية وزارة المالية.

الخرطوم :امير بابكر

الجزيرة نت