عثمان ميرغني

عثمان ميرغني يكتب.. إكسبو 2020.. خيال يفوق الخيال


زرتُ أمس، الجمعة، معرض إكسبو 2020 المقام بدبي، قبل أن يختتم فعالياته في نهاية هذا الشهر، ورأيت تزاحم ملايين مثلي أتوا من كل فج عميق ليشهدوا عروض 192 دولة تختلف في المقامات التكنولوجية والاقتصادية وتتفق على أمر واحد، الإنسانية.

الإمارات أول دولة عربية تستضيف هذا الحدث العالمي، الذي يدور من دولة إلى أخرى كل خمس سنوات (إكسبو 2015 كان في مدينة ميلان الايطالية، بينما إكسبو 2025 سيكون من حظ مدينة طوكيو اليابانية).

ورغم ما بذلته الإمارات من تخطيط وجهد ومال طوال أكثر من خمس سنوات، إلا أن ما رأيته أمس أشبه بخيال معلق بالثريا، عالم المستقبل لا اليوم، وبالضرورة سيكون العائد منه أضعاف ما أنفق فيه، ليس من الناحية الاقتصادية فحسب بل ومن زاوية أخرى مهمة، رغم كونها أحياناً لا تبدو منظورة للشعوب العربية بالتحديد، زاوية ميزان ”الدول الأكثر احتراماً“.

في عالم اليوم؛ ما بات المال والرفاهية وحدهما المعيار الذي تستحق به الدول مقاعدها في قائمة الدول ”الأكثر احتراماً“، فحقيقة أن العالم أصبح قرية كأن سكانها من صُلب رجل واحد يعيشون تحت سقف بيت واحد، جعلت المساهمة في ”النهضة“ الإنسانية واحدا من أهم المعايير في تمايز الدول وزيادة عدد ”النجوم“ على كراستها.

الشراكة في الكرة الأرضية أشبه بالشراكة في مصنع أو مزرعة من كل دولة بحسب ما تستطيع، ولكل دولة من الاحترام العالمي بحسب ما تقدم، أشبه بما أطلق عليه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة (العمران البشري والاجتماع الإنساني).

بعض الدول تقدم مساهمتها في شراكة الكرة الأرضية بإنتاجها الزراعي من القمح وغيره مثلاً، وأخرى من الطاقة، وبعضها تقدم الإبداع الرياضي، مثل البرازيل، ودول تقدم الأدباء، ودولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية تتصدر العالم أجمع بما تقدمه من براءات الاختراع سنويا، لتجعلها رائدة التكنولوجيا والتقدم العلمي، ولو كانت الدول تُبعث وتحاسب يوم القيامة لاستحقت أمريكا الجنة، ربما باختراعات الدواء والمعدات الطبية وحدها على أقل تقدير.

بينما ينطبق على بعض الدول الأخرى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ”ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم“، فكما الرجل محاسب إن عطل قدراته البشرية ليعتاش بجهد الآخرين، فالدول كذلك تحاسب بتعطيل مواردها لتعتاش بعرق وموارد الآخرين.

بناء النهضة والحضارة عند أية دولة هو من صميم بناء مفاهيمها القِيَميّة، وأعلى مقام في ذلك إدراك واجب الإسهام في الجهد الإنساني لبلوغ الغايات المجملة لكل البشرية.

صحيح أن لكل دولة واجبها تجاه شعبها لتطعمهم من جوع وتؤمنهم من خوف، لكن ذلك لا يمثل إلا ”الواجب الأصغر“ الذي يبدأ بعده حساب ”الواجب الأكبر“ تجاه الكرة الأرضية وسكانها قاطبة، المنصة التي يبدأ منها قياس مساهمة الدول في نصيبها المفروض تجاه نهضة الإنسانية في معناها الأكبر.

وإذا أخذت مثالاً دولة الامارات، فيصبح ما تقدمه من طفرات هائلة في الاستكشاف الفضائي، ”مسبار الأمل“ الذي وصل إلى مدار كوكب المريخ في 9 فبراير 2021، أو ما تقدمه في مجال أكبر محطات توليد للطاقة الشمسية في العالم، أو حتى بتوفير فرص عمل أو الاستثمار في أرضها لأعداد من البشر تفوق سكانها، في ميزان ”الاحترام الدولي“ المستحق الذي يعكس المساهمة في تعزيز نهضة الإنسانية.

استغرقني تفكير عميق عند مدخل جناح دولة الصين بمعرض ”إكسبو 2020″، صورة كبيرة لمدينة صينية يشمخ فيها العمران الحضاري، مكتوب تحتها ”كل هذا سيصبح بعد سنوات قليلة ضرباً من الماضي“.

إذا كان كل التقدم والنهضة التي حصلت عليها البشرية اليوم هي في سبيلها لتصبح ”حكاوي“ من الماضي، بكل ترفها العقلي والعلمي، فما الذي يخبئه المستقبل للبشرية؟

الإجابة في الأقسام الأخرى من الجناح، فالصين حاولت رسم صورة لهذا المستقبل، فبدت – من فرط دهشتها – أقرب إلى رجل في القرن التاسع عشر قفز إلى القرن الحالي ونظر في شاشة تلفزيون فكسره يبحث داخله عما رأته عينه، فالمستقبل في نظر الحاضر خيال، تماما كما كان ينظر الماضي إلى الحاضر، لكن سرعة الانتقال بين الماضي والحاضر والمستقبل تضاعفت كثيرا بفضل ما أحرزه العلم والإنجاز البشري.

مثلا: كان يُطلق على الأربعينيات من القرن الماضي، القرن العشرين، ”عصر الترانزنستور“، لأن هذا الاختراع الإنساني ساهم في تسريع صناعة الإلكترونيات مع تصغير حجم الأجهزة، وكان في عصره ضرباً من الخيال الذي تحقق.

وفي ستينيات القرن الماضي، اخترع العقل البشري ”الدوائر المتكاملة“ Integrated Circuits (IC) أو ما يُطلق عليه اختصار ”الشرائح الإلكترونية“ Chips ، وهي وحدة صغيرة تحتوي عدة ترانزستورات، ثم تقدمت أكثر لتصبح حالياً متناهية الصغر وتحتوي ملايين الدوائر الإلكترونية، بما وفر قدرة هائلة للعقل البشري على الاختراع والتطور مع صغر الأجهزة، فأصبح ما كان يتحقق من النهضة خلال عقود من الزمان، يمكن إنجازه في العصر الحالي خلال أيام أو بضعة شهور، والدليل على ذلك إنتاج لقاحات ضد فيروس كوفيد 19 خلال أشهر قليلة من إعلان الجائحة، بينما في الماضي كان اختراع اللقاح قد يستغرق أكثر من عشر سنوات في أفضل الظروف.

عجلة التقدم البشري تتضاعف بقدر ما يحققه العقل البشري من اختراعات، لتصبح المسافة بين الماضي، والحاضر والمستقبل، ربما أشهرا قلائل أو سنوات بأقل من عدد أصابع اليد الواحدة، أي قبل إكسبو 2025 المقبل في طوكيو باليابان.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

إرم نيوز


تعليق واحد

  1. لم نزور المعرض ولكن المتابعة الاعلامية للحدث تجعلك تشكر دولةا الامارات وقيادتها. ورؤيتها للمستقبل اكيد متقدمة علي دول المنطقة