عثمان ميرغني

عثمان ميرغني يكتب.. حديث “الهامش” على هامش الزيارة


قبل حوالي 20 عامًا كتبتُ في إحدى الصحف السودانية أدعو للاستفادة من التجربة الإماراتية في تكوين وتأسيس الدولة السودانية لتجاوز أهم قضيتين تسببتا في الحروب الأهلية بالسودان، وهز الاستقرار السياسي، وهما، الأولى: مفهوم وهياكل الحكم الاتحادي، والثانية: جدلية المركز والهامش.

الأسبوع الماضي، تشرفت بزيارة إمارتَيْ دبي والشارقة، والتقيت بعدد من المسؤولين الذين قدموا صورة واضحة تعزز الخلاصات التي سبق لي الكتابة عنها.

رغم أن السودان دولة غنية بالموارد، ومترامية الأطراف، تمتد من البحر إلى عمق الصحراء والساحل، وتجري من تحتها الأنهار، إلا أن الوقود الرئيس لإشعال المعارك الأهلية كان يستند دائماً إلى جدلية العلاقة بين المركز والأقاليم..

شكوى مستمرة من أن العاصمة، وبعض المدن الكبرى، تستأثر بالخيرات، بينما يكابد السكان في بقية القطر شظف العيش، وشح الخدمات الرسمية، مثل: الرعاية الصحية، والتعليم، والكهرباء، والماء.

الإمارات العربية دولة هِبَة رؤية ذكية، فأكثر ما لفت نظري في التجربة الإماراتية عدالة توزيع التنمية، ليس بين الإمارات المختلفة فحسب، بل حتى بين المدن أو المراكز الحضرية والقرى، قد تختلف في الاهتمامات، ولكن تتفق في عدالة توزيع الثروة، بحيث لا يحتاج المواطن الانتقال من منطقة أو حتى قرية إلى المدينة بحثًا عن خدمات أو حياة أفضل.

النموذج الإماراتي يجعل ”الإنسان“ هو الهدف، من حيث كونه ”إنسانًا“ حيثما كان، من فرط التركيز المدروس على تصميم منظومة الخدمات على أساس ”الإنسان“ لا المكان ولا الهوية؛ ومثل هذا المفهوم يجعل المنصة التي تنطلق منها القوانين، والسياسات قادرة على الوصول إلى نقطة ”الرضا“ في عمق الضمير الإنساني، والتي توفر أعلى درجات ”الأمان“ النفسي قبل المادي.

في السودان؛ تقتات التوترات الأمنية في مختلف مناطقه على الشكوى المستمرة من ”التهميش“، وهي كلمة لا تعني غياب التنمية فحسب، بل أكثر من ذلك تعني ”تعمد“ تغييب التنمية عن المناطق البعيدة، وادخارها للعاصمة، والمدن القريبة.

و يُعوّل خطاب الكراهية السياسي والاجتماعي في السودان على إثارة الإحساس بهذا الظلم المُركّب، فالبنادق التي رُفعت في جنوب السودان -قبل الانفصال- ثم في دارفور، وانتقلت إلى جنوب كردفان، والنيل الأزرق، كلها استثمرت في بورصة ”التهميش“، والذي لم ينقشع بعد توقيع اتفاقات السلام التي -على كثرتها- تخرس صوت الرصاص بينما يبقى حال المواطن في المناطق التي تُسمى ”المهمشة“ على ما هو عليه.

كل اتفاقات السلام التي أعقبت موجات الحروب الأهلية في السودان كانت تنتهي بتوزيع حصص المناصب الدستورية الرفيعة على قادة الفصائل المقاتلة، الذين ينتقلون للعيش في العاصمة الخرطوم، بينما يظل الواقع على الأرض واقعًا أرضًا، يستمر غياب الخدمات، وفرص النمو الاقتصادي، فتولد أجيال من الناقمين على ”التهميش“ ليقودوا حروبًا جديدة ترفع على أسنة الرماح شعارات ”التهميش“ ذاتها.

في التجربة الإمارتية معادلة ذكية بين ما هو مطلوب من المواطن، وما هو مطلوب له؛ فالمواطن أغلى أصول الدولة، ينال كل الرعاية بأعلى مستوى من المهد إلى اللحد، وعلى قدر هذه الرعاية ترتقي قدراته على العطاء، فيكون المردود أعلى كثيرًا من الاستثمار المادي في تنميته وتطويره.

لفت نظري عبارة مكتوبة على الحائط الخارجي لمركز الزوار بمعرض إكسبو 2020 المقام في دبي، (كل دولار ينفق في رعاية صحة الإنسان، يعود بأضعافه من عطاء الإنسان المعافى).

في السودان؛ يتطلب الأمر البدء بتعديل المفاهيم التي تقوم عليها الدولة في مختلف المجالات، وعلى رأسها مفاهيم التنمية؛ فالتنمية لا تُقاس بالإنفاق عليها بل بالعائد من الإنفاق عليها.

وعلى هذا المفهوم، كل دولار ينفق في التنمية على مستوى ولايات السودان يرتد على الخزينة العامة بأضعافه، وفي وقت قياسي وجيز، فالإنفاق على تنمية الولايات ليس لصد رياح خطاب الكراهية المبني على فكرة ”التهميش“، بل من منطلق عملي – تجاري- يحصي الأرباح من قياس الإنفاق مقابل العائد لا أكثر.

منطقة دارفور مثلًا، وهي واحدة من أكثر مناطق السودان تضررًا من الحروب الأهلية التي ترفع شعارات ”التهميش“ فوق أسنة الرماح، تمتلك موارد طبيعية هائلة فوق الأرض وتحتها ولا ينقصها إلا الاستثمار الذي لا يحتاج إلى أكثر من تشييد البنى التحتية المناسبة من طرق، وجسور، وطاقة كهربائية، وغيرها.

إذا وفرت الحكومة قدرًا من التمويل المباشر وغير المباشر للتنمية في دارفور، فإنها لا تقضي على خطاب الكراهية المبني على فكرة ”التهميش“ فحسب، بل تتحول دارفور من متلقية للمنح إلى مانحة وممول سخي لترفيع مستوى العاصمة باعتبارها الواجهة الرسمية للبلاد، فتصبح الصورة معكوسة تمامًا، الولايات هي التي تنفق على المركز.

قبل اتفاق السلام الأخير الذي وقعته الحكومة السودانية بمدينة جوبا عاصمة جنوب السودان، أكتوبر 2020، مع الفصائل المسلحة، كتبت أدعو لاتفاق سلام يتبنى مفهوم ”قسمة المصالح“ لا ”قسمة الكراسي“، فالكراسي للساسة، والمصالح للمواطنين.

وناديت أن يخرج اتفاق السلام ببنود واضحة تحكم معايير التنمية المطلوبة للولايات، أطوال السكك الحديدية، والطرق المسفلتة، والمطارات، والطاقة الكهربائية، والمداس، والمستشفيات، لا عدد الحقائب الوزارية، ومقاعد المجلس السيادي، و (قد أسمعت لو ناديت حيًا.. ولكن لا حياة لمن تنادي).

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز


تعليق واحد

  1. شيل الخموم والهمج المعاناديل ووديهم اي مكان في الدنياشوف كان ماخربوه بي المشاكل والحقدوالدموكية بتاعتون دي