منوعات

طلاب السودان… هجرة جامعات “السنوات المطاطية”

تواجه الجامعات الحكومية في السودان أصعب الظروف في تاريخها نتيجة استمرار تعليق الدراسة، ما دفع طلاباً إلى تركها نهائياً والتوجه إلى جامعات خاصة أو أخرى خارج البلاد.

فعلياً، بدأت معاناة الطلاب السودانيين مع إغلاق جامعاتهم قبل أكثر من 3 سنوات في ديسمبر/ كانون الأول 2018، حين اندلعت شرارة الثورة ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير، الذي قرر إغلاق كل الجامعات تحسباً لمشاركة طلابها في الاحتجاجات الشعبية. واستمر الإغلاق حتى يوليو/ تموز2019، أي بعد 3 أشهر من سقوط النظام، ثم تفشى فيروس كورونا في ربيع 2020، ما دفع سلطات الطوارئ الصحية إلى إغلاق الجامعات ضمن سلسلة تدابير احترازية اتخذتها لمواجهة الوباء. ولم تستأنف الدراسة في الجامعات إلا في نهاية عام 2020.

وأعقب ذلك إطلاق الجامعات سلسلة إضرابات عن العمل، أعلنتها نقابات الأساتذة والعاملين للاحتجاج على تدني الرواتب والمخصصات المالية في مقابل ارتفاع تكاليف الحياة المعيشية. وفشلت الحكومات في التعامل مع مطالب الإضرابات، فكان يُرفع إضراب ثم يبدأ آخر.
وإثر الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، علّقت إدارات جامعات عدة الدروس استجابة لدعوات العصيان المدني من أجل رفض الانقلاب. ثم فتحت جامعات أبوابها بنسب متفاوتة، قبل أن تدخل هيئات التدريس في إضراب مفتوح عن العمل أوقف الدراسة في عدد منها، أهمها جامعة الخرطوم الأكثر عراقة.

وفيما ترافق ذلك مع تدني مستوى الخدمات العامة، وبينها الكهرباء التي تشهد انقطاعاً كبيراً، والإغلاق المستمر للطرق والجسور، اختار طلاب وقف الدراسة، والبحث عن حلول بديلة في الخارج أو في جامعات خاصة لم تتأثر بالظروف العامة غير الطبيعية السائدة.

يخبر رضا قسم السيد، الذي قُبلت ابنته في كلية الهندسة بجامعة حكومية عام 2019 لكن المشاكل المتعاقبة جعلتها لا تكمل السنة الأولى رغم مضي 3 سنوات على بدء تحصيلها الجامعي، “العربي الجديد”، أنّه قدم طلباً كي تدرس ابنته في جامعة عين شمس بمصر، وبدأت تحصيلها العلمي بعد قبولها من نقطة الصفر. ويقول: “اتخذنا القرار بسبب عدم استقرار الدراسة في السنوات الثلاث الماضية في ظل التوترات السياسية والأكاديمية، ومشاكل الطلاب وهيئات التدريس التي تغلق الجامعات لأبسط الأمور. ظلت ابنتي في السنة الأولى ثلاث سنوات، بينما يفترض في الوضع الطبيعي أن يبقى لها عام واحد للتخرج، وليس الانتقال للسنة الثانية”. ويتابع: “أعتبر أنّ البيئة الجامعية في السودان تطرد الطلاب اليوم، فالسكن الجامعي مثلاً تنقصه صيانة ونظافة، ما لا يشجع على الاستمرار في الدراسة.
والمؤشرات الحالية تدل على أن حال عدم الاستقرار سيستمر، وهو ما لا تعرفه الدراسة في مصر التي ذهبت إليها ابنتي”.

من جهته، اجتاز الطالب منيب مجدي امتحانات الشهادة الثانوية بنجاح في مايو/ أيار الماضي، لكنه قرر عدم ملء استمارة القبول في الجامعات السودانية بسبب حال عدم الاستقرار فيها، وقبل لاحقاً في جامعة تركية لدراسة هندسة المعلوماتية.

ويقول والده طه لـ”العربي الجديد”: “هجرة الطلاب إلى الخارج من المخاطر التي تهدد السودان على المديين القريب والبعيد. والطلاب وأسرهم مضطرون إلى التفكير في خيار السفر، علماً أن عدم الاستقرار في الدراسة مرده خروج المليونيات غير المدروسة ضد النظام، ونظرة المتظاهرين الأحادية، وعدم وجود منهج دراسي واضح في بعض الجامعات الحكومية والخاصة. ويضاف إلى ذلك ارتفاع كلفة الدراسة ومستلزمات الطلاب، وانعدام الخطط البديلة للدراسة، وبينها عبر الإنترنت (أونلاين) التي تطبقها معظم البلدان” .يضيف: “الطلاب منشغلون بالأزمات، وبدلاً من أن يكونوا أكاديميين أصبحوا سياسيين نتيجة تجنيد الأحزاب السياسية لهم”.
أيضاً، يتحدث شرف محمد الحسن لـ”العربي الجديد” عن قبول ابنته أسيل في كلية طب الأسنان بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، بعدما حققت معدل نجاح 90 في المائة في امتحانات الشهادة الثانوية، لكن حصادها العلمي كان محدوداً جداً في ظل توقف الدراسة مرات بسبب الظروف السياسية وتدابير جائحة كورونا، واستخدام الأساتذة السيئ لوسائل التعليم عن بعد. وبدخولها السنة الثانية، قدمت أسيل طلباً لنيل منحة تركية لم تستطع الحصول عليها، ثم التحقت بجامعة الإسكندرية على نفقتها الخاصة.

ويقول: “دفع حال التدهور الشديد الذي بلغته الجامعات السودانية عدداً لا يستهان به من الطلاب السودانيين وغير السودانيين إلى هجرتها، وهو ما شمل الجامعات الأعرق أيضاً”. ويشير إلى أن ابنه الثاني، الذي يدرس في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، قضى 3 سنوات في الفصل الأول، بينما وصل رفيقه الذي قبل في جامعة خاصة إلى السنة الثانية. وشرح أن ما يمنعه من إلحاق الابن بشقيقته هو عدم توفر المال رغم أن رسوم الدراسة في الخارج ضئيلة، ولا تتعدى 600 دولار بالنسبة للكليات التطبيقية. ويلفت الحسن إلى أن “هجرة النوابغ من الطلاب تستنزف البلاد، علماً أنّ الإمارات قبلت تدريس الناجحين المائة الأوائل في الامتحانات الأخيرة للشهادة الثانوية”.

وعدد الحسن مخاطر هجرة الطلاب جامعات السودان، وأولها التأثير على مشاركاتها الاجتماعية والثقافية، وعدم وجود متخرجين في السنوات المقبلة، وفقدان الجامعات موارد النقد الأجنبي التي كانت تحصل عليها من قبول طلاب من جنسيات مختلفة. ورأى أن إبعاد الجامعات عن السياسة يشكل وسيلة لمعالجة الخلل الحالي.

انتقادات للحكومة
ويؤكد نائب العميد السابق لكلية المعلوماتية في جامعة أم درمان الإسلامية عمر البلولة، لـ”العربي الجديد”، أنّ “أعداد الطلاب الذين يتركون الجامعات كبيرة جداً، رغم عدم وجود إحصاءات رسمية.

وخلال شغلي منصبي كنت أتلقى طلبين يومياً لوقف الدراسة بهدف الدراسة في الخارج أو الانتقال الى جامعة خاصة، أما ما يحصل حالياً، فتتحمل مسؤوليته الحكومة التي لم تنفق على الجامعات من أجل تعزيز استخدامها وسائل التعليم عن بعد، ورفضها تعديل هياكل رواتب الأساتذة، وكذلك إدارات الجامعات التي انشغلت بالمواضيع السياسية”.

وتوقع أنّ تفقد الجامعات السودانية ميزات أكاديمية واقتصادية كثيرة، ويتقلص دورها المجتمعي في ظل الأوضاع الحالية. وذهاب الطلاب النابغين للدراسة في الخارج سيوجه ضربة كبيرة للجامعات التي تعتمد على بحوثهم في المشاركات العلمية والتمثيل خارجياً، ويمنع عنها إيرادات مالية معتبرة وبينها من أجانب. وهذه الأموال تستخدمها الجامعات في تسيير أعمالها وتطوير مشاريعها”.

ويقر الوكيل السابق لوزارة التعليم العالي البروفيسور سامي محمد شريف، في حديثه لـ”العربي الجديد”، بعدم وجود بيانات وإحصاءات من الوزارة لعدد الطلاب الذين تركوا الجامعات الحكومية، لكنه يرجح أن عددهم كبير نتيجة التعليق المستمر للدراسة، وانخفاض كلفتها في بعض البلدان مقارنة بالسودان. ويقول: “جعل الإغلاق المتكرر الطلاب يتراكمون في السنة الأولى بعدد أكبر من إمكانات استيعاب الجامعات ومؤسسات التعليم، خصوصاً على صعيدي الإسكان وتوفير القاعات. وتفاقمت المشاكل مع عدم استعداد الجامعات لتوفير وسائل تدريس غير مباشرة، باستثناء عدد قليل”.

ويقترح درس خطط لتقليص حضور الطلاب، وإعادة تأهيل البنى الأساسية، واستخدام التكنولوجيا بشكل أوسع، وكذلك استغلال الإذاعة والتلفزيون لبث المحاضرات، مع الاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي التفاعلية في هذا البث. ويشيد بفكرة سفر الطلاب للدراسة في الخارج، لأنّ “هذا الأمر يكسبهم تجارب حياتية جديدة، في وقت يبقى المستقبل مظلماً، إذ لا أمل في توفير وظائف جديدة وسط الزيادة المستمرة في الأسعار، وكذلك في تغيير صورة الشباب للعيش في مجتمع مثالي بعيد عن المحسوبية أو المحاباة، ما يكرر ما حدث في العهد السابق”.

العربي الجديد