رأي ومقالات

الكابتن محمد شمس الدين.. الرحلة الأخيرة

كثيرون يرحلون باجسادهم عن الحياة ولكن تبقى ذكراهم عطرة وحاضرة في الدواخل، تحلق أرواحهم الطيبة كأنهم مايزالون يمشون بين الناس، وهؤلاء هم من يتم وصفهم بالاتقياء الأنقياء الذين يعيشوا بين الناس بمكارم اخلاقهم وطيب معشرهم، والفقيد الكابتن محمد شمس الدين الذي رحل العام الماضي وهو في ريعان شبابه كان مثل الغيمة التي يستظل بها الكثيرون من رهق الحياة وتشعب دروبها، فقد كان حنونا وعطوفا وصاحب قلب يسع الجميع، وكان مثل النسمة في نهار غائظ، كان يجسد المثابرة والطموح، بل كان ملهما بنجاحاته وأخلاقه.

محمد شمس الدين من مواليد الخرطوم بحري في ٢٥ مايو ١٩٨٤، درس في العزبة أساس وبحري النموذجية الثانوية، ولأنه كان من النوابغ فقد التحق بكلية الهندسة قسم هندسة الطيران بجامعة السودان، ولأن الجامعة ألفته طالبا مميزا ومتفردا اكاديميا لم تشأ أن تتكره يذهب بعيداً عنها قبل أن يؤدي ضربيتها وتستفد منه فكان أن عمل مساعد تدريس لمدة عامين.

وبعد أن ترك بصمته في الجامعة العريقة كانت خطوته التالية الالتحاق بمجمع صافات مهندس فني في صيانة الطائرات ويبدو أن عشقه للتطوير هدف أساسي لديه فرغم تخصصه في الهندسة واجادته لها إلا أنه رأي إضافة المزيد من التخصصات إلى سجله المهني فكان أن التحق بأكاديمية هاي لفل وفيها واصل تميزه واجادته حينما أصاب النجاح في عبور كورس الطيران الخاص ومن بعده التجاري، وبعد ذلك وبرفقة دفعته وصديقه الكابتن نضال بكرى حزما حقائبهما وتوجها إلى دولة جنوب أفريقيا وخضعا لكورسات متقدمة في الطيران، وبعد عودته إلى السودان واصل مشواره مع مجموعة صافات وفي هذه المرة إنتقل الى وظيفة طيار إختبار للطائرات التي يتم تصنيعها وتجميعها محليا.

ولأنه كان مؤهل ومنضبط ومثال للمثابرة والاجتهاد تدرج وظيفيا في هيئة منظومة الصناعات الدفاعية إلى أن وصل في العام ٢٠١٨ إلى منصب مدير عام أكاديمية هاي لفل للطيران التي عرفته طالبا مجتهدا ثم مديراً مؤهلا، فقد تدرج من مدير دراسات نظرية إلى مدرب طيران، ثم مدير تدريب إلى أن جلس عن جدارة على منصب المدير العام للأكاديمية.

ويمكن التأكيد على أنه كان استثنائيا وشغوفا بتطوير إمكانياته والوصول إلى أعلى المراتب في الطيران، فرغم المنصب الرفيع في هاي لفل إلا أن هذا لم يكن سقف طموحاته فقد مضى خطوة أخرى في مشواره حينما التحق بشركة بدر للطيران في إطار التعاون بينها والاكاديمية وتمكن من إنجاز كورس البوينج ٧٣٧ وعمل في الشركة طيار لأكثر من عامين.
في الثالث عشر من شهر يونيو من العام ٢٠٢١ كتبت إرادة الله أن يرحل عن الحياة الدنيا بهدوء مثلما كان يعيش بين الناس الذين أصبح عليهم صباح ذلك اليوم وقد باغتهم الناعي حينما كشف عن خبر وفاته وهو الذي كان بينهم ينبض بالحياة قبل ساعات، ولكنها إرادة الله، ذهب وترك خلفه حزن عميق سكن نفس كل من عرفه، لأنه كان شابا مجتهدا، محبا لعمله، محبوبا من زملائه، كان ملهم للكثير من الشباب لمثابرته وتفوقه وإصراره على النجاح، كان رحيله يوما حزينا توشحت فيها هاي لفل وبدر وكل من يعرفه بالسواد وتسللت الدموع من مآقي الرجال قبل النساء.

يقول عنه صديقه ورفيق دربه الكابتن “نضال بكرى” الذي كان الفقيد بمثابة أخيه الأكبر :”كان صاحب صفات نادرة، أمتلك قلب يسع الجميع رحمة وحنيه، حينما كان مديراً لأكاديمية هاي لفل كان يحرص على حل مشاكل الطلاب، وأشهد له أنه في إحد المواقف عجز طالب عن سداد ماتبقى من الرسوم وتم حجز شهادته فكان أن سدد الفقيد المبلغ من ماله الخاص، وحينها طلبت منه أن ادفع معه المبلغ إلا أنه رفض وقال لي:”عاوز تشيل مني الأجر”، فقلت له :”أنت مدير عام، فلماذا لاتصدق له بباقي المبلغ”، فقال أن “هذا مال الدولة”، وأذكر أنه طلب مني سحب المبلغ من البنك وتوريده لرسوم الطالب وتسليمه شهادته، “وشدد على عدم ذكر إسمه او أن يعرف أحد بذلك”، ومثل هذه المواقف كثيرة، فقد كان سخيا وعطوفا يعشق مساعدة الآخرين.

ويضيف الكابتن نضال:”في أمسية رحيله تلقيت منه إتصال هاتفي عند الساعة الواحدة صباحاً وسألني عن أخباري من واقع أننا لثلاث أيام لم نتواصل بطبيعة المشغوليات ليتوفي بعد ذلك بساعات، وبعد الوفاة عرفت أنه أتصل على عدد كبير من أصدقائه لتفقد أحوالهم، وكأنما كان يشعر بأن أيامه في الحياة قد اقتربت من النهاية، بل أنه إتصل على أحدهم وكان بينهما خصام وهو غلطان في حق الفقيد الذي قال له إلى متى يستمر الخصام، وأكد له أنه “عافي عنه لوجه الله تعالى” ، وذلك الشخص حكي هذه الواقعة يوم العزاء وهو يشعر بالاسي لأنه أخطأ في حق الفقيد ولم يبادر بالاعتذار، وعليه الرحمة فقد كان بار بوالديه وزوجته هبه التي ترك لها مسؤولية كبيرة، وهنا لابد من الإشادة بكل زملائه عامة وفي شركة بدر للطيران خاصة على وقفتهم المشرفه مع أسرته وكذلك هيئة التصنيع الحربي واكاديمية هاي لفل”.

في مشوار الراحل الكثير من الشخصيات التي وقفت بجانبه وظلت وفيه له حتى بعد رحيله منها صديقه نضال، المهندس أنس ، مهندس عبدالجبار، المدير التنفيذي لبدر للطيران أحمد ابوشعيرة، والفريق ميرغني إدريس اللذين كانا كلاهما بمثابة الأب الروحي له، وقد حزنا لموته لأنه كان بالنسبة لهما فقد جلل.

ذهب الفقيد ومثلما ترك خلفه تاريخ حافل من النجاحات فإنه أيضا خلد إسمه باطفاله الثلاثة “يمن سدن، وأخر العنقود ساري الذي حينما توفي والده كان عمره تسع أشهر، وفي هذا الشهر الكريم نسأل الله العلي القدير أن يغفر له ويرحمه ويجعل الجنة مثواه.

صديق رمضان
طيران بلدنا