“9 طويلة” عصابات تروع الخرطوم و”الأمن الذاتي” خيار السودانيين
"كان من الممكن الحد منها بدرجة كبيرة في حال تم تفعيل قوانين المرور بالتشديد على منع قيادة أي مركبة من دون لوحات"
تعيش العاصمة السودانية الخرطوم وبعض من المدن الأخرى حالة من الترويع والتوجس بفعل ما يعرف بظاهرة عصابات النهب بالدراجات النارية، عرفت محلياً بـ “9 طويلة ” التي روعت المجتمع مستخدمة أدوات الترهيب والتعنيف، منها السرقة والهرب بواسطة دراجة نارية في الغالب لا تحمل لوحات مرورية، ما يصعب عملية البحث والاكتشاف فور مغادرة الدراجة لمسرح الحادث واختفائها في جوف المدينة المتكدس بالبشر والمركبات.
تطور نوعي
أما أبطال تلك العصابات التي يرجح كثيرون أنها امتداد وتطور نوعي لعصابات النيقرز الشبابية من المراهقين وصغار السن التي انتشرت خلال الفترات الماضية، لتظهر هذه المرة بدراجات نارية على متنها شخصان في الغالب، الأول يقودها بينما يتولى الثاني عمليات النهب، التي تستهدف بصورة أساسية الحقائب النسائية والهواتف النقالة. لكن الظاهرة لم تتوقف عند هذا الحد، بل تطورت إلى التهديد بالسلاح الأبيض (السواطير والسكاكين) والقتل في كثير من الأحيان من أجل نهب هاتف الضحية.
وباتت هذه العصابات في الآونة الأخيرة مهدداً وهاجساً حقيقياً لأهالي المدن التي تنتشر فيها، تحد من حركتهم الطبيعية ونشاطهم التجاري والاجتماعي، بخاصة بعد غروب الشمس، لا سيما في الأحياء والمناطق النائية في العاصمة الخرطوم. وقد تحولت لاحقاً من النشل إلى التوقيف والتهديد والنهب بالإكراه تحت تهديد السلاح، والقتل أو الأذى الجسيم في حالة مقاومة الضحية.
حالات لا تحصى من النهب نهاراً جهاراً تعرض فيها مواطنون للتهديد والنهب. عشرات لا بل مئات من مثل تلك الحالات شهدتها وما زالت، شوارع وأحياء العاصمة الخرطوم المختلفة منذ فترة، فقد فيها كثير من الضحايا هواتفهم وممتلكاتهم الشخصية وأموالهم بالطريقة نفسها.
حملات ومواجهات
من ناحيتها، شنت الشرطة حملات مكثفة مستمرة في مدن ولاية الخرطوم الثلاث في شرق النيل ببحري وأم بده في أمدرمان وجبل أولياء، أسفرت عن القبض على عشرات المتورطين والدراجات النارية، إلى جانب كمية من الأسلحة البيضاء، فضلاً عن الحشيش والحبوب المخدرة والمسروقات الأخرى، ويجري استكمال التحري مع المتهمين تمهيداً لمحاكمتهم.
وفي أحدث مداهمات قامت بها الشرطة بمحلية جبل أولياء، اضطرت شرطة النجدة وهي تستجيب لنداء استغاثة من أحد المواطنين، إلى إطلاق عبوات من الغاز المُسيل للدموع لتتمكن من السيطرة والقبض على شبكة إجرامية تضم 7 من المتهمين أثناء شروعهم في نهب المُواطنين في المنطقة.
وشهدت منطقة الكدرو شمال الخرطوم مطلع مارس (آذار) الماضي، أحداث عنف إثر مقتل أحد أبناء المنطقة بواسطة مجموعة متفلته من العصابات التي عاودت سلب ونهب المارة، وقتلت شخصاً حاول مقاومتهم، ما دفع أهل القتيل إلى حرق المساكن العشوائية على طول خط السكة الحديد بوصفها أوكاراً لكل أنواع الجريمة.
وقالت لجان المقاومة في المنطقة، إن ما حدث هو تطهير لبؤر الجرائم، وليس قتالاً أو مواجهات قبلية، داعية المواطنين في المنطقة إلى أخذ الحذر واليقظة وضبط النفس والتزام طريق العدالة، وحثت الجهات الأمنية على الإسراع في الوصول للجناة.
جريمة مركبة
من ناحيته، أوضح عبدالله عبد الرحمن، مدير شرطة محلية أم بده، ذات الكثافة السكانية العالية، أن جريمة الخطف والنهب بواسطة الدراجات النارية أو ما يعرف ب “9 طويلة”، هي جريمة ذات دوافع شخصية لتلبية رغبات الجاني.
وأكد في حديث تلفزيوني محلي، أهمية تضافر الجهود الشرطية والمجتمعية للقضاء عليها، مشيراً إلى استمرار حملات الشرطة المعلنة وغير المعلنة في المناطق الهشة أمنياً بصفة دورية ويومية.
وقال إن القضاء على ظاهرة “9 طويلة” يتطلب تشريعات جديدة، بوصفها جريمة مركبة تجمع ما بين النهب والسرقة، إلى جانب تكثيف دور الشرطة، لا سيما بعد أن باتت هذه الجريمة الآن تحظى بوعي المواطنين في المقام الأول وتحركات الشرطة المعنية.
وعلى المنحى نفسه، يعتقد عابدين الطاهر، مدير المباحث الفيدرالية السابق، أن اسم “9 طويلة” استنبط من شكل الالتفاف والدوران الذي يقوم به سائق الدراجة البخارية، وهو ينقض على فريسته ثم يعود من حيث أتي بمسار يشبه الرقم (9).
وصف الطاهر “تسعة طويلة” بأنها في الأصل جريمة نهب قد يصاحبها عنف في حالة مقاومة الضحية وتمسكه بممتلكاته، محملاً السلطات مسؤولية الإسهام في تناميها وانتشارها، إذ كان من الممكن الحد منها بدرجة كبيرة في حال تم تفعيل قوانين المرور بالتشديد على منع قيادة أي مركبة أو دراجة نارية من دون لوحات. ويمكن منع الركوب المزدوج في الدراجة وفقاً للضرورة وتغليباً لمصلحة الجماعة. لكن عدم تطبيق القانون شجع هؤلاء المجرمين على استخدام هذه الدراجات من دون رقيب، كما يصعب الوصول إليهم في مثل هذه الظروف، منادياً بمحاكمات عاجلة لكل من يتم القبض عليه مرتكباً هذه الجريمة، وإنزال أشد العقوبات بحقهم لردع الآخرين أيضاً.
تساهل وجذب
ويرى الطاهر أن عدم اتخاذ السلطات التدابير اللازمة هو ما شجع كثيرين على ارتياد ذلك العالم، حتى أن هنالك بعض حالات لمن ليسوا من أصحاب السوابق، فهذه الجريمة ستظل جاذبة طالما أنها تحقق عائداً لمرتكبيها مع ضعف محاربتها من قبل الأجهزة المنوط بها ذلك.
ويوضح مدير المباحث السابق أن عصابات “9 طويلة” لا تختلف كثيراً عن جرائم “النيقرز” التي انتشرت بشدة في أعوام سابقة، لكنها بدأت في الانحسار مع تفشي “9 طويلة”، ويمكننا القول إن معظم “النيقرز” قد انضموا لها مع ضعف واضح في مكافحتها، لذلك نراهم يستخدمون الأسلحة ذاتها التي كانوا يعتمدونها من قبل وهي الأسلحة البيضاء بأنواعها المختلفة، واللافت أن انتشارهم الجغرافي توسع في الطرق الرئيسة وداخل الأحياء وهذا ما لم يكن متاحاً لـ”النيقرز” التي كانت محصورة في الأطراف والمواقع النائية.
واستبعد الفريق عابدين، ما ظل رائجاً ويتردد لفترة، عن وجود علاقة بين جهاز الأمن وهؤلاء المجرمين، مشيراً إلى أنه أخبار لا إثبات لها، إذ ليس من المنطق أن يقوم جهاز رسمي أياً كان، بتبني مجرمين والسماح لهم بمثل هذا الانتشار وزعزعة الأمن.
على الصعيد ذاته، عزا أمين إسماعيل مجذوب، متخصص الأزمات والتفاوض في أحد مراكز الدراسات، حالة السيولة الأمنية الراهنة إلى جانب التدهور الاقتصادي والوضع المعيشي في البلاد إلى ارتفاع نسبة البطالة التي تعد من العناصر المهمة في بروز مؤشرات الجريمة المنظمة كمصدر للدخل، إلى جانب وجود عدد من النازحين الذين استوطنوا أطراف المدن بكل مشكلاتهم، فضلاً عن اللاجئين من دول الجوار، وجميعهم لا تتوفر لهم سبل كسب العيش، ما قد يدفعهم إلى الجريمة.
وأشار مجذوب إلى أن أحد أبرز أسباب ومظاهر التسيب الأمني، الذي يحدث في الخرطوم وبعض المدن السودانية الكبيرة الأخرى حالياً، هو اختفاء العناصر الأمنية من منطقة معينة في فترة محددة، ما يؤدى إلى توسيع العناصر الإجرامية لممارساتها ونشاطها في تلك المناطق.
أسباب ومسؤوليات
كذلك يُرجع متخصص الأزمات ظاهرة الانفلات الأمني إلى أسباب عدة، أهمها تواجد بعض عناصر الحركات المسلحة الموقعة وغير الموقعة على اتفاق السلام في بعض المدن، ما يؤدي إلى بعض التصرفات الإجرامية، إذ تم ضبط عناصر ترتدي أزياء شبه عسكرية في بعض البلاغات.
سوداني يبتكر قطع فسيفساء فريدة ويحيي فنا نادرا في بلاده
وأوضح أن بسط الأمن مسؤولية الأجهزة الأمنية بصورة عامة والشرطة على وجه الخصوص، وعلى الرغم من أنها تبذل جهوداً كبيرة في ذلك، لكن يبدو أن انشغالها بالتظاهرات والمواكب ربما يؤدي إلى ضعف القوة المتوفرة، لكن تظل تلك مسؤولية الدولة ولا يعفيها ذلك من مسؤوليتها.
ويلاحظ أن معظم العناصر الإجرامية توجد في أطراف المدن، حيث تغيب الخدمات ويصعب الوصول إليها، بالتالي تصبح حاضنة للنشاط الإجرامي والعصابات.
ويلفت مجذوب إلى أن هذه الظاهرة قد تتسبب في أزمة أمنية حادة في بعض المناطق، آملاً في أن تكون للأجهزة الأمنية خطط استراتيجية واضحة لمجابهة هذا الوضع والتعامل مع تلك العناصر، مع أهمية أن تقود الدولة عملاً اجتماعياً مصاحباً، خصوصاً في ما يتعلق بمعالجة قضايا تفشي البطالة والوجود الأجنبي والنزوح، إلى جانب وضع تشريعات مشددة وصارمة تضع عقوبات رادعة ترافق تلك المعالجات، حتى لا تتطور هذه الظاهرة وتصبح أشبه بـ”الموضة سريعة الانتشار والتفشي”.
أمن ذاتي
وأوضح أن معظم تلك الفئات تقطن في أطراف القرى والأحياء، إلى جانب عصابات الأسر الذين اتجهوا لتشكيل عصابات رفضاً للمجتمع وتمرداً على القيم، التي لم تتح لهم تحقيق أحلامهم في ظل ارتفاع نسب البطالة وعدم وجود فرص توظيف، فتوجهوا لسرقة السيارات وقطعها.
وفي محاولة للإسهام في الحماية والتأمين، درجت بعض مواقع التواصل الاجتماعي على بث بعض الرسائل التي تنبه الناس إلى المناطق الأكثر خطورة وضرورة تجنب بعض الشوارع، بهدف توعية المواطنين ونصحهم بتفادي التحرك المنفرد ليلاً في تلك المناطق من أحياء وطرقات العاصمة، لا سيما مناطق السوق المحلي والمركزي في الخرطوم وصولاً إلى المدينة الرياضية وحول جامعة أفريقيا العالمية ومنطقة الدلالة القديمة، إضافة إلى مناطق أخرى مجاورة.
إلى جانب تنويهاتها، تطالب الوسائط المواطنين المضطرين إلى التحرك بتعزيز وسائل سلامتهم كإغلاق زجاج السيارات، وتنصح سائقي عربات الأجرة أيضاً بعدم العمل ليلاً في المناطق الطرفية، والتزود قدر الإمكان بوسائل الدفاع عن النفس في حال دعت الضرورة إلى ذلك.
جمال عبد القادر البدوي
موقع إندبندنت