جنوب السودان.. مأزق الانفصال أم تباشير الاستقلال؟
توقفت أمامي سيارة مظللة و انا في انتظار المواصلات في محطة الملاوي للوصول إلى سوق جوبا ، لم ار من بداخلها لكنه كان يناديني كي اركب معه ، عندما تقدمت خطوتين وجدت ضابط شاب بزي الشرطة يضع على كتفه ثلاث نجمات برتبة نقيب ، الشاب ، كان يشير إلى أن اركب . انه يشبه صبي كان يعمل معي في الدكان قبل فترة طويلة .
رفع عني الحرج بسرعة شديدة و بعربي جوبا :
– (بوس) -هكذا كان يناديني- (انت ما عرفو انا، مسو ؟) ، بمعنى ( أكيد انت لم تتعرف علي) ، أنا لادولي كان شغال مع اتا في دكان ..
لادولي صبي صغير مع مجموعة من زملائه كانوا يساعدون التجار في سوق كنجوكونجوا في رص البضائع خارج المحلات ، يأتون باكرا فينهون مهامهم بسرعة ثم يلحقون المدارس قبل قرع الجرس ، هم مجموعة من التلاميذ من مناطق مختلفة خارج جوبا ، يعيشون في داخلية ملحقة بالمدرسة الثانوية بالقرب من السوق .
لان لادولي عمل معي فترة طويلة امتدت ثلاث سنوات على غير العادة . فقد امتدت علاقتي به حتى و هو في كلية القانون بجامعة جوبا ، غبت عن جوبا فترة طويلة فوجدته يضع تلك النجمات على كتفه .
ماريو شاب صغير جاء من الخرطوم قبل انفصال الجنوب بعامين ، كان يعمل معي صبي في الدكان ، بمرور الزمن تركت له الدكان ليعمل فيه وحيدا ، لامني البعض على تصرفي: كيف اثق و اترك متجري لجنوبي، لم أهتم بكلامهم ف أعطيته مطلق الحرية في إدارته، بعد عام طرح لي مشروع أن نشتري مولد صغير لنبيع الكهرباء للمحلات ، رفضت الفكرة، و استاذنني أن يشتريه من ارباحه و يوكل إدارته لاحد اقربائه . بعد عامين أصبح يمتلك عدد من المولدات الكبيرة و يغذي عدد من الأسواق، سلمني الدكان و تفرغ لاعماله ، التقيته قبل ثلاث سنوات يقود سيارة لاندكروزر حديثة حملني بها إلى وجهتي ، وقال لي انه ابتنى لاسرته منزل من طابقين في قوديلي ، بعد أن كان يستأجر لهم غرفة واحدة و راكوبة عندما اتو من الخرطوم التي كان يعمل فيها فردا في شركة الهدف الأمنية براتب لا يتجاوز ٥٠دولارا في الشهر .
ماريا فتاة ذكية كانت تعمل ست شاي في فترة الإجازات لتوفر مصروف الدراسة ، تستدين من محلنا في سوق الملكية احتياجاتها صباحا و تدفع حسابها نهاية اليوم ، تمكنت من دراسة الآداب في جامعة جوبا و تمتلك الان وكالة سفر بها عدد من الموظفين …
هذه النماذج عدد قليل ممن تغيرت حياتهم إلى الأفضل في فترة لا تتجاوز العقدين من الزمان في جنوب السودان ، اسردها لمعرفتي اللصيقة بأبطالها و أنني جزء من التغيير الذي حدث لهم ، حفزتهم بلا حدود لهذا التغيير.
عدد ضخم من الجنوبين تغيرت حياتهم تماما منذ الانفصال و تكوين دولتهم الوليدة، عانو من البؤس والجوع و عاشوا في الكراكير و امتهنوا المهن المضنية لسد الرمق عندما كانو في السودان الكبير ، و اليوم امتلكوا تلك الفارهات التي لا تتجاوز علاقتهم بها في الماضي أن يغسلوها فقط ، و سكنوا في العمارات التي كانو يحرسون مواد بنائها و يعيشون في كراكيرها، امتلكوها اليوم بكامل رفاهيتها .
جنوب السودان يخطوا بخطوات بطيئة لكنها قوية نحو التطور . في العيد الحادي عشر لإنفصال الجنوب و هم يسمونه استقلالا، تغيرت جوبا تماما عما كانت عليه قبل الانفصال ، نعم عانت من حربين دمرت الكثير ، لكن جروحها اليوم تلتئم ، تمددت الطرق و الكهرباء لا تقطع فيها الا لحظات قليلة في فترات متباعدة ، و تتعالى المباني ، ويتم استبدال مواد القش القديمة بمعمار حديث يغطيه و يجمله الكلادن على امتداد المدينة التي أصبحت نظيفة . تحس ان جميع الجنوبين يعملون بجد لبناء الدولة . تم استبدال الباعة الجائلين و من يقودون المواتر بالمواطنين و كذلك التجارة و كثير من الوظائف التي كانت حكرا على الأجانب من دول الجوار …
فريق السلة الجنوبي ينافس بقوة للتأهل إلى كأس العالم بعد أن هزم تونس قبل أيام كأول فريق أفريقي يهزم تونس منذ خمسة عشر عاما ، و هو الآن أقرب للتاهل للنهائي متصدرا القائمة الافريقية ، تنادى محترفوا الأندية الأمريكية و الاوروبية من الجنوبيين لرفع اسم بلدهم بين الامم ، فيأتون إلى المباريات بدون مقابل بل ويدفعون من مالهم الخاص . من كان يعرفهم عندما كانو في السودان الكبير ؟؟. بل من يعرف ما هي كرة السلة ؟؟
بعد عقد من الزمان و بحكم اننا شهود على هذه التجربة ، لم يخطئ الجنوبيون ابدا بهذا الخيار ، هم يسمونه استقلالا و نحن نسميه انفصالا، ايا كانت التسمية فحياة الجنوبيين تغيرت إلى الأفضل ، إحساسهم بالانتماء تعاظم، لولا هذا الاحساس فما الذي يجعل لاعبا يترك قصره في نيويورك و يدفع من جيبه ليشارك مع بلاده في التاهل لنهائيات.
بالتأكيد الحياة ليست كلها وردية كما اسطرها الان في هذا البوست ، و هناك كثيرين يعانون من الجوع او المرض او الجهل ، لكن شكل الدولة و الحياة في جنوب السودان تتطور باستمرار إلى الأفضل، فإن واصلوا بهذه الروح روح التوافق و نبذ القبيلية و العنصرية سيقضوا قريبا على الثلاثي المدمر (الفقر والجهل والمرض) ، و تتطور بلادهم و تكون عروسا لشرق افريقيا . الأمر ليس مجرد احلام ورديه، لكنهم تعلموا الدرس و يعملون اليوم بجدية اكبر مما كانوا عليه، يستشرفون مستقبل استقلال الارادة يعالجوا به آثار مأزق الانفصال .
سألت العشرات بالأمس عن مدى صحة إختيارهم من عدمه ، اختيار الانفصال ، كلهم أكدوا بأنهم سعداء لهذا القرار ، و نحن الذين نعيش بينهم أيضا سعداء لسعادتهم، فالإنفصال لم يفصم خوتنا و تعايشنا معهم ، دوما نحن الأقرب اليهم من بقية الجيران …
عيد استقلال سعيد لكل الجنوبين …
سالم الأمين بشير ٩يوليو ٢٠٢٢