الفوانيس .. شعاعات حزينة و حنينة
تزداد أهمية اللمبة عند أهل البادية ويتعاملون إزاءها وكأنها “بقرة مقدسة” لجهة أنها تمنحهم ناحية من الإلهام، ورغم خطورتها على بيوت القش (القطاطي)، وخيام القماش ورغم تسببها في العديد من حوادث الحريق، إلا إنها لا زالت المدلل الأول في ذلك الخلاء الصامت، إلا من عواء ذئب وبعض فحيح الحيات والأفاعي.
في تلك الفلاة يمثل الفانوس رمزاً للكرم (ناس فلان (لمبتهم ما بتموت)
إحساس بالأمان
في الشتاء يزداد الإحساس بالأمان، ومن داخل بيوت الجالوص تنطلق بخجل وخشية تلك الأشعة الصفراء المنخرطة في (الحمرة)، ممتلئة بالحنان والرومانسية، يحكي كل قصته، ويسرد حكايته، الأطفال، ربات البيوت، الفتيات والرجال، قيل إن (سناء أحمد) حين أطفأت فانوسها وهجعت، كانت تحلم بحبيبها الأبدي، وقيل إنه إذا أنهت (شلة الليل) قعدتها، وأغلق النادي أبوابه، كانوا يستنشقون في طريق العودة روائح خليطة بين الطعام والبخور المعطر، وينظرون إلى الدخان المتصاعد ويحلمون.
مشاهد من المقابر
تتصدر الفوانيس مشهد الحياة، فإنها تمنح الموتى من ضوئها غمراً وفيضاً، قيل إنها تكتسب في المقابر عاطفة أخرى في بوادي كردفان، فالجثامين تحمل إلى مثاويها الأخيرة على أضواء الفوانيس، وفي هذا الزمن وبعد انتشار الكهرباء أصبح الفانوس أثراً بعد عين، نادراً ما تجده بطريقته القديمة الحنونة ونوره الأصفر وأشعته الباهتة يزين الليل، ويضع بصمته الخاصة في الأشياء من حوله، ويخيل لمن يذكره أن يذكر جملة لها ما بعدها (لماذا يقترن ضوء الفوانيس بالبساطة والحزن؟!).
مناخ للحكايات
يقول الباحث في التراث عبد الرحمن حامد لـ(الحراك): في فصل الخريف وفي قرى كردفان وبعض المناطق الأخرى، تزداد الحاجة إلى الفانوس والمصابيح اليدوية التي تعتبر مصدر الإضاءة الرئيس عند فتح مجاري تصريف المياه، أو عندما تأتي لحظات الصمت جراء عواء السماء، ببرقها الخاطف ورعدها الهدار، فتجتمع الأسرة في غرفة واحدة يتوج فيها الفانوس ملكاً، ينظرون إليه بتباهٍ وكأنه زهرة متفتحة للتو.
ويضيف: من زاوية رومانسية يحقق الفانوس مناخاً للحكايات الصغيرة وتشتعل على شعاعاته الشاردة بين مسامات النوافذ قصص باهرة.
وتابع: تباع الفوانيس بالأسواق التي غالباً ما يكون معظم مرتاديها نساء، سيما ربات البيوت، ويحرص أهل العريس أن لا ينسوا ضمن تجهيزاتهم فانوساً بحجم أكبر.
في أرياف وقرى بعض مناطق كردفان وعند المساء بعد صلاة المغرب يجري الأطفال بـ(قزازات) الجاز والفوانيس يعبئونها ويعودون بالـ(محروقات) إلى بيوتهم، في ذات اللحظة تكون الأم منهمكة في تلميع (الفانوس) وفحص أجزائه (القيطان، خزان الجاز الصغير، والمفتاح الخاص بزيادة الشعلة أو تخفيضها)، بينما يستقل الأب بوسيلة إضاءة خاصة، مصباح يدوي (بطارية)، يحمله معه على الدوام، فيما تخصص البيوت الكبيرة فانوساً خاصاً لكل غرفة الصالون بفانوس منفصل، والبنات لهن نصيب من أجل الاستذكار، وفي كل بيت حلقة مكونة من تلاميذ وتلميذات يتوسطهن فانوس جاز.
الخرطوم – عثمان الأسباط
صحيفة الحراك السياسي