نحو بناء نموذج تعليمي نهضوي في السودان
نحو بناء نموذج تعليمي نهضوي في السودان
(من خلال تكامل الدور المجتمعي مع دور الدولة)
د. عبد المحمود النور محمود
تأخر الشعوب والدول عن ركب التقدم والحضارة مرده في الأساس الى التربية ، وعندما نقول تربية فاننا نعني بها النموذج الذي تنتجه عملية متكاملة هادفة الى تعليم وصياغة الفرد الصالح واعداده للحياة متسلحا بكافة القيم والمهارات والخبرات الضرورية اللازمة لأداء رسالته في الحياة بكفاءة واقتدار ؛ مساهما مع الجماعة في صناعة واقع أفضل .
وعندما نبحث عن هذا النموذج من خلال عملية طويلة مر بها السودان في تاريخة الحديث نجد ثمة قصور وتشوهات كبيرة لازمت العملية التربوية والتعليمة اشتركت فيها كافة الحكومات والقوى السياسية السودانية ، والتي لم تستطع أن تقدم فلسفة أو رؤى وتصورات عميقة لتربية وتنشئة أبناء السودان . ثم يبرز القصور في ناحية أخرى وهو الخلل الذي ظل يلازم العملية التعليمية نتيجة عدم جعل التعليم في أعلى سلم أولويات الدولة والمجتمع بالانفاق والرعاية ، وبالرغم من أن المسؤلية تقع بالدرجة الأولى على عاتق الدولة ؛ لأنها القيمة على كافة شئون المجتمع ، الا أن المجتمع نفسه غيرُ معفي من تلك المسؤلية أيضا .
أن النموذج الذي ننشده في بلوغ واقع أفضل لبلادنا ومجتمعنا ومن ثم أمتنا ، هو “النهوض الحضاري” ذلك النهوض الذي يُؤسس على فلسفة جادة وآليات فاعلة وإرادة غلّابة ، النهوض الذي يستفيد من مقدرات الدولة وجهود مجتمعها ، حاشدا لكل الطاقات لتحقيق الرفاه والتقدم والنمو والاسهام الانساني في كافة مجالات الحياة المعنوية والمادية ؛ بما يضعها ويؤهلها لتكون في صدارة الأمم والشعوب والدول .
النموذج النهضوي الذي نعنيه وننشده هو فكرة حاشدة تلتقي وتتواضع عندها كل ارادات ومكونات الشعب السوداني الاجتماعية والثقافية والسياسية ، تحترمها وتؤمن بها وتحرسها ؛ عبر الدستور والقوانين ، وتصوغها مفاهيما وأدبيات وسياسات ، وتمكن لها عبر مشروعاتها وبرامجها المتنوعة ، وتعمل على تحقيقها وتجسيدها في كل مفاصل الحياة . نموذج يجد فيه الجميع أنفسهم ؛ باختلاف مشاربهم السياسية والاجتماعية والثقافية ، يرتضونه حلما عظيما لبلادهم ومجتمعهم وأمتهم ، نموذج يعبر حقيقة عن “السودانوية” ذلكم النسيج المتفرد بين العروبة والأفريقانية ، وبين الاسلام وغيره من الأديان والمعتقدات التي تتكامل في تسامح وإلفة ، نموذج قادر على التعايش مع محيطه العربي والافريقي والعالمي بايجابية ، ولا سبيل لصياغة هذا النموذج وتحقيق هذا الحلم الا بفلسفة تربوية تعليمية واعية ، لأنه مرتبط باعداد الإنسان عماد النهضة ، والانسان السوداني فيه الكثير من نقاط القوة التي تحتاج الى تعزيز ، والكثير من نقاط الضعف التي تحتاج الى معالجة واصلاح ، والكثير من الفرص التي تحتاج الى استغلال أمثل وتوجيه مخطط .
من هذا المنطلق ؛ يُنظر للتربية على أنها من أهم العمليات في بناء المجتمع وتطويره ، والتعليم هو حق وشأن للجميع ، لذا لا غرابة إن أرادت كل جهة أو جماعة أو مواطن إبداء رأيه فيما يقدم لأبنائه من تعليم ، وهو ما يجعل شأن التعليم ومستقبل الأجيال حديث كافة المجالس ، وهمّ معظم الناس ؛ غنيهم وفقيرهم وجيههم ووضيعهم ، فهي قضية تهم جميع مكونات المجتمع بلا منازع . لذلك عند صياغة الرؤى والسياسات التعليمية ينبغي على الخبراء توسيع دائرة الحوار والتفاكر حول قضايا التعليم لتسهم فيها كافة فئات ومؤسسات الدولة والمجتمع .
وعلاقة المجتمع السوداني بقضايا التعليم يثبتها تاريخ السودان القديم والحديث ؛ والذي يؤكد أنه – أي التعليم – بدأ بجهدٍ مجتمعي خالص . ولايزال للمجتمع اليد الطولى في دفع مسيرة التعليم حتى وقتنا الحاضر ، الأمر الذي جعل هذه اليد سابقة لدور الدولة في كثير من الأحيان ، فما نشهده من حماسة وفاعلية وتنافس كبير لدى كثير من المنظومات الاجتماعية كالمجالس التربوية ومجالس الأمناء وحتى صديقات المدارس ؛ يشير بصورة واضحة الى الايمان والادراك بأهمية التعليم وتطويره والنهوض به ، ويشير كذلك الى الروح الوثابة التي تتوافر لدى الكثير من قادة الرأي ولدى منظومات العمل الاجتماعي والشعبوي في بلادنا ، هذه اليد ممثلة في “اللجان والمكونات والمنظومات وحتى الجهود الفردية” تجاوز دورها مسألة تشييد المؤسسات التعليمية وتأهيلها واعمارها ؛ الى مسألة تسيير العملية التعليمية نفسها بتوفير كثير من مطلوباتها ومقوماتها .
وليس غريبا أن يتفرد الشعب السوداني بهذه الروح العظيمة في اهتمامه بالتعليم ، وقيامه بكثير من الجهود الفردية والجماعية ، فقد عُرف هذا الشعب وتفرد بثقافة الكرم وروح النفير وحشد واستنهاض الطاقات في الملمات لسد الثغرات وجبر الكسور ، وقد كان دوره في جبر كسور التعليم عظيماً ، لدرجة أن هذا الجهد الذي ينتشر في كل بقاع السودان لا يمكن حصره ولا تقييمه من ناحية مادية ، ولا يمكن حساب قيمته عند الحديث عن حجم الانفاق على التعليم ، ولو تم رصد وحساب هذا الانفاق وتقنينه لفاق حجم الانفاق الحكومي على التعليم في كثير من الجوانب والمستويات .
وتتجلى عملية الانفاق المجتمعي على التعليم في مظاهر عدة ؛ ولكن إحدى ابرز مظاهرها – غير المحسوبة ايضا – هو الانفاق على التعليم غير النظامي ؛ وأهم أنواعه هو التعليم الديني المتمثل في ( الخلاوي والمسيد ) وغيرها ، وهي مؤسسات تعليمية غير رسمية ؛ تستوعب أعدادا مقدرة من أبناء السودان من الأطفال والشباب الذين يتعلمون القرآن وعلومه واللغة العربية . وهنا تتجلى إحدى مظاهر خيرية الشعب السوداني المحب للدين والتدين والعلم والتعليم ، وهي من القيم الأصيلة والموروثات الحضارية التي فشلت القوى السياسية والحكومات في التركيز عليها وتعزيزها ، لا سيما أنها أحدى أهم نقاط القوة والركائز التي يمكن أن يؤسس عليها أي مشروع نهضوي لبناء الأمة تستقيم به مؤسسات الدولة والمجتمع .
ومن الركائز التي نحتاجها في تأسيس النموذج النهضوي ، هو استنهاض طاقات الشرائح المهمة والفاعلة في المجتمع ، وتوجيهها نحو تطوير عملية التعليم وجودتها ؛ فالشباب والطلاب والمرأة ، هم ركائز أساسية ولاعبين حقيقين في انجاز عملية النهوض الحضاري بدءً بانهاض التعليم . وقد كانت ولا تزال لهذه الشرائح أدوار ملموسة في اشتراكهم في عمليات الاعمار وسد النقص في المعلمين وخدمة المؤسسات التعليمية بالقوافل والأنشطة والبرامج الهادفة ، لكن هذه الشريحة – لا سيما في هذا الوقت – تحتاج الى توجيه جهودها وطاقاتها بوعي ورشد ؛ نحو الأهداف والغايات وربطها بالنموذج المنشود . انها تحتاج خطابا تعبويا مدروسا ومتجددا ؛ يستلهم ويجمع روح الأصل والعصر ، وبلغة حداثية ، ورؤى ملهمة ودافعة ، ولابد لهذا الخطاب أن يستفيد من أدوات التقنية والاعلام الحديث ؛ بوسائطه المتعددة والمتجددة التي تستهوي هذه الشراح وتجمعهم حولها .
والاعلام أداة تربوية وتعليمية يتعاظم دورها يوما بعد يوم ، وهو أيضا إحدى مظاهر الهزيمة الحضارية التي وقعنا فيها وفشلنا في توظيف أدواتها بالصورة التي تنسنهض المجتمع وتبني القيم وتشكل الوعي الجمعي نحو بلوغ الغايات ومواجهة التحديات . وينبغي للدولة عبر مؤسساتها المختلفة أن لا تتغافل عن الاعلام بصورة عامة ، والاعلام التربوي بصفة خاصة ، فينبغي للمادة الاعلامية التربوية أن تُبث عبر كافة المواعين والوسائط والقنوات لتملأ كافة الفراغات ، بما يمكنها من الوصول الى المستهدفين في كل زمان ومكان ؛ باسلوب جاذب مواكب يحقق البعد المعنوي “القيمي والتعليمي” الذي يتكامل بدوره مع البعد المادي المتمثل في “شكل ومضمون المؤسسات التعليمية” . وتكامل البعد المعنوي والمادي هو ما يقود في النهاية الى النموذج النهضوي الحضاري المنشود .
إن تحقيق التكامل المادي والمعنوي في عملية النهوض الحضاري ؛ مسألة لا تأتي عفوا في هذا العصر بتحدياته الكبيرة ومعاركة وصراعاته الضارية ، وانما هو عملية ينبغي أن يخطط لها بشكل مدروسة ، وتقف خلفها جهود رسمية ومجتمعية ، ويجب علينا أن لا ننسى أن عصر العولمة والانفتاح عظّم من دور المجتمع على حساب دور الدولة ؛ لا سيما في مسألة تقديم الخدمات وعلى رأسها خدمة التعليم ، فقد تضاءل دور الدولة وبدأ ينحصر في السياسة الخارجية والدفاع وحفظ الأمن ، وتمدد دور المجتمع المدني ليغطي المسؤليات الأخرى .
إن الفجوة التعليمية في السودان ما تزال كبيرة ، ولن تستطيع الدولة وحدها أن تملأ الفراغ الموجود فيها على المدى القريب أو البعيد ، لذلك ينبغي لها أن تفسح المجال واسعا أما دور المجتمع في اسناد العملية التعليمة بالشكل الذي لا يجعلها تتخلى عن مسؤلياتها في زيادة الانفاق على التعليم وتحقيق جودته ، وحراسة سياساته وغاياته التربوية ، وتحسين بيئاته والاهتمام بالمعلم تدريبا وتأهيلا ودخلا . وهنا يجب أن لا ينزعج البعض عندما يرى تنامي عدد المؤسسات التعليمية الخاصة ؛ فهي بلا شك ظاهرة حسنة لكنها تحتاج الى ترشيد وتخطيط ورقابة كي تتكامل مع دور المؤسسات التعليمية الحكومية .
إن التكامل والانسجام بين التعليم الحكومي وغير الحكومي يجب أن لا يختل أو يتأثر مع تنامي مؤسسات التعليم الخاص التي اُنشئت برؤوس أموال المواطنين – وكثير منهم من المعلمين أنفسهم – ومن بعض الغيورين على التعليم ؛ فهم ارتضوا أن يستثمروا أموالهم في مجال تقديم الخدمات التعليمية ، وهم بالتالي يتحملون عبئا كبيراً عن الدولة في القيام بهذه المهمة والمسؤلية الشاقة ، وكثير من الدول التي تقدمت في التعليم أفسحت المجال للقطاع الخاص للعمل في التعليم ، وقدمت له التسهيلات والتشجيعات اللازمة ، بل عملت على دعم الكثير من المؤسسات التعليمية بطرق عدة من بينها دفع نفقات الطلاب الذين يدرسون في هذه المؤسسات .
إن الخطر الذي يؤدي للانحراف عن الأهداف والغايات التربوية هو ترك مؤسسات التعليم الخاص تعمل بمنأى عن السياسات التربوية والتعليمية المرسومة من قبل الدولة ، أو السماح لانتشارها بصورة غير مخططة أو مدروسة ، أو تركها تعمل بعيدا عن معايير جودة التعليم . فالدولة مطالبة بالتعامل مع مؤسسات التعليم الخاص كمؤسسات اسناد تربوي وتعليمي وليست مؤسسات ومواعين جباية وايرادات ، فاذا تمت مراعاة كل ذلك يكون التعليم الخاص اضافة حقيقية لاسهامات الدور المجتمعي في انهاض التعليم .
وتتسق تلك الجهود مع فعالية كثير من المنظمات والمبادرات المجتمعية التي نهضت بأعمال جليلة مثلت علامات فارقة في تاريخ ومسيرة التعليم في السودان ، ويأتي دور المنظمات الوطنية كحلقة مهمة في عملية انهاض التعليم ؛ اذا قرئ ذلك مع ما تقوم به من مشروعات عملية وطموحة وأحيانا جريئة في التصدي لكثير من التحديات التعليمية في القرى والفرقان والأرياف بل حتى في المدينة .
إن ما تقوم به المنظمات الطوعية والوطنية يمثل حلقة مهمة في عملية التكامل وذلك من خلال اقامتها لشراكات ذكية – في بعض الأحيان – مع بعض المنظمات العالمية ، واشتراكهما معا في تنفيذ بعض المشروعات ، لكن يعاب عليها أحيانا ارتباطها بأجندة المنظمات الأجنبية أكثر من ارتباطها بالحاجات والقضايا التعليمية الملحة في واقعنا المعاش . كما يعاب على كثير من المؤسسات الحكومية والعاملين فيها عدم طرحهم لكثير من مشكلات التعليم بالجرأة والشجاعة الكافية بهدف اصلاح المنظومة التعليمية ، واكتفائهم فقط بمحاولات تحسين الصورة ، وغض الطرف عن جوانب القصور والتشوهات ؛ مما يفوت علينا فرص الاستفادة من كثير من المنح والدعومات التي تقدمها هذه المنظمات ، علما بأن السودان عضو مساهم في كثير من المنظمات الدولية ومن حقه أن يحصل على تمويل للكثير من المشروعات التعليمية .
أن تكامل الدور الرسمي “الحكومي” مع الدور المجتمعي ، واهتمام الأول بادراج الثاني في استراتيجياته واستصحابه في سياساته وبرامجه ، مسألة مهمة في اصلاح التعليم وجعله أداة للنهضة الشاملة ، فالقضايا والتحديات التعليمية كبيرة جدا ؛ تتعدد وتنتشر في المدن والريف ، وتتعلق بالأطفال داخل وخارج المدرسة ، وقضايا الأمية ، وتردي البيئة التعليمية ، والمعلم ، وغيرها . ومن النماذج المشرقة التي تحتاج الى وتأكيد للمضي بها قدما هي المبادرات التي قامت بها مؤسسات عدة على رأسها مؤسسة الخدمة الوطنية في مشروعات من بينها محو الأمية ، وهي من أميز المبادرات التي يمكن تطويرها وتفعيلها بعد تقويمها .
وهناك بعد آخر مرتبط بالقطاع الخاص ما يزال بعيدا عن التنظيم والتفعيل ليسهم بشكل أكثر ايجابي في عملية تكامل الأدوار ، وهو الاستفادة من أموال المسؤلية المجتمعية للشركات والمؤسسات وتوجيهها عبر سياسات محددة تقوم بها مؤسسة تُنشأ خصيصا لهذا الغرض ؛ مثل محفظة أو صندوق للتعليم تضع فيه الدولة سهمها مقدرا الى جانب ما تقدمه هذه الشركات بشكل سنوي ، فالدولة لا بد أن تؤكد جديتها في حشد الموارد وترشيدها وتوجيهها حسب الأولويات وحسب خارطة المشروعات والقضايا التعليمية على المدى القريب والبعيد .
ونحسب أنه اذا ما تمت مراعاة كل ذلك بشكل علمي ، مع الاستفادة من تحليل كافة جوانب القوة والضعف والفرص المتاحة ، والتعلم من أخطاء الماضي ؛ يستطيع السودان – دولة وشعبا – أن يحقق اختراقا عمليا في اصلاح التعليم الذي بدوره يمثل المدخل الاساس للنهضة الشاملة ، وذلك من خلال صياغة الرؤية الفلسفية للتعليم ، وبناء التصورات المتكاملة لأدوار كافة الجهات المعنية ببناء وتصميم النموذج ” الحلم ” الذي ينشده أهل السودان كافة ، ليصبح في النهاية واقعا تجني ثماره الدولة والمجتمع .
د. عبد المحمود النور محمود