رأي ومقالات

غازي صلاح الدين العتباني: البحار العتيقة بنفائسها ترحل


بسم الله الرحمن الرحيم
البحار العتيقة بنفائسها ترحل
يقف الشيخ يوسف القرضاوي كعملاق مجازي مسافة قرن من الزمان، اشتهرت فيها أقواله وأعماله بين المسلمين وانتشرت، كما لم يحدث من قبل إلا للصفوة من العلماء.
حفظ شيخ القرضاوي القرآن وقد بلغ العاشرة، أي قبل أن يحتلم، وقبل أن يفهم معنى الذنب، فكانت نشأته في جو من الانضباط الصارم. نضج وعي القرضاوي وتكون فكره في سياق اشتداد الحركة الوطنية بمصر في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. كانت تلك فترة تكوينية حرجة ازدحمت فيها الدعوات والاتجاهات السياسية المختلفة بادعاءاتها المتضاربة. كان اختيار القرضاوي بغير لجلجة: الجمع ما بين مطلوبات المعاصرة وتعاليم الدين، أي كيف يمكن تجسيد وصف المسلم المعاصر. كان عالما وسطيا تمتعك مسامرته وتنفعك قرباه.
كان القرضاوي عالما فذا في تخصصه، تشهد له بذلك معاهد العلم التي درس فيها وأحرز من خلالها أعلى التقديرات الأكاديمية. لكنه لم يكن أكاديميًا منغلقا على مقولاته ومواقفه الباردة، كان مفكرا منفتحا على الحقيقة في أي ثوب برزت. كان ثوريا يدرك قوة الموقف السياسي الشجاع وموقف الفقيه المسلم منه، كان نصيرا للمستضعفين في كل مكان، داعيا الى تحريرهم، عبر عن ذلك الموقف من خلال كتاباته وخطاباته مستندا أحيانا الى مواهبه الشعرية، وقد خلد هذه الدعوة الى التحرير بأشهر قصائده المنشدة:
مسلمون مسلمون مسلمون كيف كان الحق والعدل نكون
ما كان لشيخ القرضاوي أن ينجو من اختياراته دون عقاب، فسجن وطورد وحكم عليه بالإعدام ومن محنته تلك عرف صموده وقوة شكيمته.
ضرب القرضاوي بسهم وافر في إنشاء المؤسسات الدعوية والاقتصادية والخدمية ذات المرجعية الإسلامية، وظل من أكبر المتحمسين لها الحريصين على استمرارها في ظل محاولات لم تنقطع للقضاء عليها.
في زمان الهذر والتفاهة وإضاعة الوقت والمال، ورغم سفاهات الليبرالية الجديدة، ألف القرضاوي قرابة المائتي كتاب في شتى المجالات لنفع المسلمين والبشرية كلها.
كان شيخ القرضاوي كنساج دؤوب لا يلبث أن يتم نسجا حتى يبدأ آخر والنول ما زال بيدي تلاميذه، وهذا هو تراثه.
شيخ القرضاوي كان بحرا تغوص فيه القواميس، رحل عنا ونحن أشد ما نكون حاجة اليه، لكنها سنن الكون، وكل بحر يوما سيرحل.
دعاؤنا لشيخ القرضاوي بالرحمة، ولآل بيته بحسن العزاء، والعزاء ممتد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بالتوفيق.
استنبول
٢٧ سبتمبر ٢.٢٢
د. غازي صلاح الدين العتباني