لماذا يتجدد الصراع في النيل الأزرق؟
تجدد الصراع القبلي الدامي في ولاية النيل الأزرق مرة أخرى، وذلك من دون قدرة من الحكومة على إنهائه أو حتى تحجيمه، وذلك على رغم فقدان حيوات 400 إنسان على فترتين خلال هذا العام، وذلك في وقت تعجز كل الأطراف عن استئناف العملية السياسية التي من المفترض أن ينتج عنها تكوين حكومة مدنية.
وبطبيعة الحال يدفع عدد من العوامل التاريخية والسياسية إلى اتساع حجم الصراعات القبلية الدموية في السودان ربما يكون من أهمها عامل عدم استقرار النظام السياسي السوداني منذ استقلال الدولة عام 1956، الذي هو سبب رئيس لهشاشة الدولة، وعدم القدرة على قيامها بوظائفها الأساسية، خصوصاً ما يتعلق بالسيطرة على كامل التراب الوطني، حيث برزت الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان منذ منتصف الخمسينيات، وهي الحرب التي بلورت اتجاه الحكومات في المركز للتحالف مع القبائل على أسس عرقية أحياناً، وأسس التنافس السياسي في أحيان أخرى، وهو الأمر الذي أسفر مثلاً عن وجود ما يسمى الأمن العنصري، في أجهزة الأمن السودانية، الذي ابتدعه نظام البشير، وأسفر عن أن يتم التصنيف قبلياً للمواطنين السودانيين في الأوراق الثبوتية الرسمية.
الدور السياسي للقبيلة بالسودان
هذه البيئة السياسية السودانية امتدت على نحو ما حتى اللحظة الراهنة، حيث يشكل الصراع السياسي بين النخب السياسية، وتنافس حيازة المقاعد المنتخبة، أحد أهم عوامل بروز الدور السياسي للقبيلة بالسودان، وربما يكون أبرز الأمثلة على ذلك الصراع الذي يدور في النيل الأزرق، إذ إن نزوع البعض لتجهيز قاعدة قبلية تسانده في الانتخابات المرتقبة في السودان قد أسفر عن مواجهات بين المنحدرين من قبيلة الهوسا ذات الأصل النيجيري، الذين يمارسون الرعي أساساً، ولا يملكون أراضي (حواكير)، وبين هؤلاء الذين يملكون الحواكير وشرعية سياسية في الإدارة الأهلية من قبائل الفونج.
ومن الواضح أن جذور الصراع القبلي في إقليم النيل الأزرق تتخطى حوادث الاشتباك الأخيرة بين أفراد قبيلتي الهوسا والبرتا، حيث عانت منطقة جنوب السودان من تاريخ طويل من القتال الأهلي امتد عقدين من الزمان (1983 – 2005) بين الحكومة المركزية والحركة الشعبية لتحرير السودان المطالبة باستقلال جنوب السودان، وانتهت الحرب بين الجانبين مع توقيع اتفاق السلام الشامل في عام 2005، الذي منح جنوب السودان الاستقلال، لم يتضمن الاتفاق حلاً للنزاع في إقليمي النيل الأزرق وجنوب كردفان، لذا تجدد الصراع في إقليم النيل الأزرق عام 2011 بين الحكومة السودانية و”الحركة الشعبية لتحرير السـودان – شمال”، التي تشكلت كنتيجة لاستقلال الجنوب.
وقد اتسعت دائرة القتال داخل الإقليم بعد الانقسام الداخلي، الذي شهدته “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” في مطلع عام 2017، بعد صراع بين رئيس الحركة مالك عقار ونائبه عبدالعزيز الحلو، ليصبح هناك ثلاثة أطراف متصارعة داخل الولاية، توقف القتال في نهاية عام 2020 نسبياً بعد توقيع اتفاق جوبا لسلام السـودان بين الحكومة الانتقالية في السـودان وعدد من الفصائل المسلحة، والتي كان من بينها حركة تحرير السودان – شمال بقيادة عقار، بينما لم ينضم الجزء المنشق من الحركة بقيادة الحلو إلى اتفاق جوبا.
ويمكن القول إن الصراعات داخل إقليم النيل الأزرق، الذي يغلب عليه الطابع القبلي، قد دفعت كل طرف من الأطراف إلى إيجاد ظهير شعبي له، من خلال تعزيز علاقاته مع القبائل عبر وعود بمزيد من الحقوق السياسية والامتيازات الاقتصادية، وهو الأمر الذي لجأت إليه القوى السياسية السودانية في إطار الصراع بين المكون العسكري والمدني في أعقاب الثورة السـودانية، وانعكس بشكل مباشر على البنية المجتمعية، وعمق الاستقطاب بين المكونات القبلية المختلفة، مما أسهم مع عوامل أخرى في تعزيز بيئة مناسبة لتجدد الصراعات القبلية في عدة مناطق داخل السودان.
في هذا السياق جاءت المطالب القبلية، إذ طالبت قبيلة الهوسا بإدراجهم في الإدارة الأهلية في إقليم النيل الأزرق، عبر اختيارهم أميراً يمثل قيادة أهلية لإدارة شؤون الهوسا في أبريل (نيسان) الماضي، وهو الأمر الذي رفضته باقي قبائل النيل الأزرق (الفونج والبرتا والأنقسنا) بزعم أن الهوسا من القبائل الوافدة من غرب أفريقيا، وليست من القبائل الأصلية التي لها حق المشاركة في الحكم الأهلي للإقليم.
وتعد أزمة الإدارة الأهلية واحدة من الأسباب الرئيسة للمواجهات القبلـية التي تتجدد بين الحين والآخر في السودان، ورغم أن تجربة الحكم الأهلي في السـودان قد مرت بمنعطفات واجهت فيها إنهاء وجودها في ثمانينيات القرن الماضي، إبان عهد الرئيس السـوداني السابق جعفر النميري، فإنها عادت مرة أخرى للواجهة مع وصول البشير للحكم، حيث مثلت ظهيراً شعبياً للسلطة والحركة الإسلامية، وداعماً لحرب الحكومة السـودانية مع متمردي جنوب السـودان، حيث انخرطت قبائل النيل الأزرق في الصراع الدائر بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السـودان في فترة حكم البشير، مما أدى إلى إضافة جذور استقطاب بين القبائل التي ناصرت البشير ضمن قوات الدفاع الشعبي، التي قاتلت إلى جانب الجيش السـوداني، وتلك التي ساندت الحركة الشعبية لتحرير السـودان.
ومن الواضح أن المنطقة التي خرجت قريباً من أتون الحرب الأهلية القبلـية، وعقدت اتفاق سلام في جوبا، لا تزال تداعيات الحرب قائمة فيها، ولا تزال هناك أطراف متضررة من هذا السلام، أو غير راضية عنه بصورته الأخيرة، وهناك أطراف تخشى من تغيير بنود الاتفاق بما يقلل مكاسبها التي انتزعتها، وهذه الأطراف كلها تريد أن تركب موجة الأحداث لتأكيد مواقفها، وربما شاركت بعض مكوناتها في صناعة هذه الأحداث ابتداءً.
“نظام الإدارة الأهلية”
في هذا السياق تحتفظ أكثر القبائل في السودان بنظامها القديم المنخرط في ما يسمى “نظام الإدارة الأهلية”، الذي يتمتع بمزايا مدونة في دواوين الحكم الاتحادي مع وجود نظام قضاء عرفي معترف به في بعض الحالات بالتوازي مع القضاء الرسمي. في المقابل تجد مجموعات قبلية مثل الهوسا نفسها بمعزل عن “نظام الإدارة الأهلية” على رغم وجود رموز وممثلين لهم في كل ولاية.
وفي ظل انحسار ظل الدولة وضعف منظومتها الأمنية والشعور باستعداد السلطة لتقديم تنازلات مقابل الحفاظ على الوضع الراهن، وجد قطاع من هذه القبائل الظروف مهيأة لتمكينهم ضمن النظام الأهلي وإدارته العرفية، ومن ثم تصاعدت الدعوة داخل الهوسا لتشكيل نظام تراتبية قبلـية عندهم يشبه نظام القبائل المتوطنة قديماً.
لكن القبائل القديمة في النيل الأزرق تتخوف من أن تشكيل نظارة قبلـية أو عموديات لما تعتبره “مجموعات وافدة” مثل الهوسا سوف يستهدف حضورها ونفوذها وامتيازاتها الاعتبارية وحقوقها في أرضها وحواكيرها، فضلاً عن التخوفات الكبيرة من أي تغيير يمس النظام الاجتماعي الهش في إقليم النيل الأزرق، الذي ظل يعاني حروباً أهلية متصلة، بخاصة في ظل حالة الفراغ السياسي والأمني التي يمر بها السـودان منذ سقوط الرئيس السابق عمر البشير.
وطبقاً لهذه البيئة القبلية لاقت دعوات قبيلة الهوسا رفضاً قبلياً قاطعاً أدى إلى ردود فعل قاسية خيم عليها شبح التمييز والعنصرية وسط الدعوة إلى تجريد بعض الإثنيات من هويتها الوطنية وإعادتها إلى ديارها الأولى، كما أسهمت المشاهد الموثقة في شبكات التواصل الاجتماعي في تأجيج مشاعر الغضب، وأسهمت حدة الاستقطاب السياسي في السـودان في تفاقم الأزمة، وفتحت المجال لاستثمارها سياسياً وتحويلها إلى أدوات ضغط، مما زاد الأزمة تعقيداً.
إجمالاً، تمثل الأحداث الأخيرة في ولاية النيل الأزرق واحدة من تجليات أزمات قديمة وحديثة في السودان، فالأزمة القديمة هي أزمة الهوية الوطنية مع عمق نفوذ القبيلة وحضور ارتباطاتها في جغرافية انتشارها المتجاوزة للحدود القطرية، وهذه القبيلة تنشد ابتداء الخصوصية المجتمعية المميزة لها، والحدود الجغرافية الخاصة بها، أما الأزمة الحديثة فتتمثل في انحسار ظل الدولة والفراغ السياسي المرتبط بعدم وجود حكومة تحوز توافقاً سياسياً وذلك لمدة عام تقريباً، وهو ما أسفر عن تعمق الأزمات الاقتصادية والأمنية، مما اضطر الجميع في السـودان إلى البحث عن ملاذ آمن، فحضرت القبيلة كبديل جاهز لتأمين الحماية وتوفير الأمن ونشر شبكة التكافل الاجتماعي.
إندبندنت عربية