رأي ومقالات

🔴دكتور ياسر أبّشر: داءُ الوطن


في 17 أغسطس 1999 ضرب زلزال ضخم منطقة إزميت في تركيا.. كان زلزالاً كارثياً. ومن حوادث ذلك الزلزال المؤسفة أن سحب مدينة صغيرة مجاورة إلى البحر فغرقت بكل ما فيها ومن فيها وانهارت آلاف المنازل ومات ألوف البشر.
وقتها كان بولنت أجاويد رئيس حزب الشعب الجمهوري يرأس تركيا. وحزب الشعب الجمهوري هو حزب علماني يتبع النهج الكمالي، وفي عهد حكوماته أذاق الشعب التركي الأمرين بمصادرته للحريات، وقتل علماء الدين، ومنع الآذان، وغيّر حروف اللغة من العربية إلى اللاتينية، ومنع الحجاب، واعتقل المتدينين، وكانت الأوضاع الاقتصادية تنحط باستمرار، حتى بلغ الأمر فشل الحكومة في سداد رواتب الموظفين، واستدانت 16 مليار دولار من البنك الدولي، بشروطٍ قاسية، حتى أصبحت الدولة مُثقلة بالديون.
وفي مجتمع كان محافظاً، تكاثرت المنظمات الغربية وانتشرت كل مظاهر التهتك الغربي، فقد كان الحكام معجبين بالغرب ومطيعين له.
وفي مثل هذه الأوضاع من الطبيعي أن يفقد الحكام ولاء الشعب وثقته، ومن الطبيعي أن ينقطع التواصل الفعلي والعاطفي بين الحاكم والمحكوم.
نظم الرئيس بولنت أجاويد حملة لجمع التبرعات لضحايا زلزال إزميت.. وللأسف كان تجاوب الجماهير ضعيفاً، فلم يستطع أن يجمع من كل تركيا أكثر من 160 مليون دولار رغم أن الحملة والمناشدات تواصلت لتسعين يوماً.
في المقابل نظم أردوغان رئيس تركيا الحالي الإسلامي التوجه، حملة لضحايا الزلزال الأخير قبل يومين، فجمع في سبع ساعات فقط 6.1 مليار دولار!!!
وتصاعد الرقم في اليوم التالي حتى قارب 10 مليار دولار.
وأكد هذا النجاح الذي اعتبر رقماً قياسياً عالمياً لتجاوب الشعوب، أن الشعوب تثق في القريبين لثقافتها وهويتها، المتدينين، الأمناء، الذين ينجزون وينفقون الأموال في مصارفها الحقيقية.
وهكذا انتفت المقارنة بين بولنت أجاويد العلماني وأردوغان الإسلامي.
وكانت حملة البرهان – حمدوك المسماة «القومة للسودان» وكل حملاتهم الأخرى، تكراراً لفشل بولنت أجاويد لتماثل التوجه، وانقطاع الصلة – وَمَنْ ثم الثقة – بينهم وجماهير الشعب.. ومن بين عوامل التواصل بين الشعب والحاكم قرب الحاكم من تقاليد وهوية الشعب وثقافته.
وفي البلاد المسلمة ما مسلمُ الحكام ككفارها!!! فحتى إن لم يكن الحاكم متديناً في نفسه فإن احترامه لهوية شعبه وتقاليده مَجْلَبة لقرب الناس منه.
وقد عهدنا من الأزهري والنميري وسوار الدهب والمهدي والبشير أنهم يغشون الجمع والجماعات ويخاطبون الحشود الجماهيرية، وهذا ما يند عنه طبع حمدوك وما لا يُطيقه البرهان.
فلمصلحة منْ يا برهان تتحمل مسؤولية أن يكون الوطن مباءة تجوس خلاله جموع العملاء والجواسيس والمخابرات، ويتنفذ فيه السفراء الأجانب، وتنتشر فيه جمعيات إشاعة الفاحشة؟
لمصلحة من تسكت عن كل مخططات تغيير هوية الأمّة وإضعاف تدين الجماهير بما اتخذتموه من إجراءات وما سننتموه من قوانين؟؟
سئل أردوغان ذات مرة عن أسباب نجاحه وحزبه في تطوير تركيا من دولة مَدِينَة إلى دولة عضو في مجموعة العشرين الثرية عالمياً، فقال: إن من بين الأسباب أنه لم يؤجل ملفاً إلى اليوم التالي.
أما عندنا فقد اشتهر البرهان بتأخير البت في أشد الأمور عجالة وأهمية، حتى أصبح الناس يتندرون أن البعثيين طلبوا منه اعتقال البشير في انقلابهم في 1990 فنفذ الاعتقال في 2019!!!
الحاكم يا سيدي البرهان لا يشتكي، فهو الذي تشتكي له الجماهير. وعهدناك دائم الشكوى. فأنت تشتكي من عدم قدرتك على دمج الدعم السريع، وتشتكي من قحت الأولى.
وجراء ذلك ذهبت هيبتك، حتى شتمك صلاح مناع والولد عروة الصادق وتوعدك وجدي صالح، وقالوا: إنهم – وأنت الحاكم – سيرمون بك في غيابة السجن!!!
حزنت إذ قرأت أن الطاهر حجر والهادي إدريس وياسر عرمان عصوا أمر المحكمة بإخلاء شقق مملوكة لمواطن كانت صادرتها لجنة التمكين جوراً.
وقرأنا أنك أمرت النائب العام بحفظ كل البلاغات المتهم فيها أعضاء لجنة التمكين، الذين أكثروا في الأرض الفساد، وأبلغك ثلاثة وزراء مالية أنهم لم يودعوا الأموال التي اختلسوها خزانة الدولة.
فلتتعظ سيدي بما قاله الرئيس الأميركي الأسبق توماس جيفرسون:
«إنني أرتعد فَرَقَاً على بلدي حينما أتذكر أن الرب هو العدل، ومن ثم فإن عدالته لن تنام إلى الأبد»
I tremble for my country when I reflect that God is just; that his justice cannot sleep forever.
وليتك تعلم أن الدولة – كل دولة – أنثى. والأنثى تحرص على نظافتها وزينتها. وقد أحزنني صديقي الخواجة حين قال لي بعد زيارته للخرطوم: Your Capital is Filthy «عاصمتكم قذرة».. لما رأى من تراكم الأوساخ والقاذورات وانتشار الذباب…
فأين أنت من كل هذا؟؟؟
سيدي الفريق:
نعلم أن الحاكم يأمر ولا يُؤمر.. وتأكد أنك تتلقى التعليمات من ابن زايد وتعطيه ما يطلب في ميناء أبو عمامة وألوف أفدنة الشمالية، وتخضع للسفراء والمبعوثين.. وها أنت ذا تتردد على قصره تستلهمه النصح بشأن ما ينبغي أن تفعل بشأن حميدتي، كما فعلت في آخر زيارة لك لأبو ظبي!!!
وشهدنا الحكام يستقطبون الدُهاة وذوي الخبرة الأذكياء، يتخذونهم بِطانة. وقديماً قال الحكيم ميكياڤيللي:
The first method for estimating the intelligence of a ruler is to look at the men he has around him.
«إن أول ما يُقدّر به ذكاء الحاكم هو النظر للرجال الذين حوله»..
فمن من النُجباء الدُهاة من أهل السودان اتخذته بطانة مستشارة؟؟ لا أرى أحداً.
إن أضخم فشل للحاكم هو قصوره عن التنبؤ والاستشراف، إما لقصور في فهمه وذكائه، أو لقلة ذوي البصيرة من حوله. وقد رأيناك فاقداً للرؤية، عديم الحيلة، تلجأ للمراوغة والتأجيل والتسويف حتى انهار كل شيء.
عفا الله عنك، فغادرنا لندعو لك.. فإن الناس يدعون عليك.. فاعلم.

دكتور ياسر أبّشر