عثمان ميرغني يكتب.. إغلاق الباب الخطأ
للسودانيين حكمة شعبية مأثورة تقول (الباب البجيب الريح.. سِدّو واستريح) أي أغلق الباب الذي تأتي منه الرياح لتستريح، ولأن السودان من أكثر الدول التي شهدت انقلابات عسكرية، نجح ثلاثة منها في تولى الحكم لفترات تجاوزت نصف قرن، فقد ظل الساسة كلما أطاح الشعب بحكم عسكري وأنشأوا حكما مدنيا ينظرون إلى “بوابة القيادة العامة” للجيش السوداني بمعيار “الباب البجيب الريح” فيحاولون بشتى الطرق إكمال الحكمة الشعبية “سِدُو واستريح”.
لم تكن المعضلة أساسا في كيف يُغلق هذا الباب بإحكام، بل كانت دائما في إغلاق الباب الخطأ، الذي أساسا لا تأت من الرياح، فالمعضلة في العثور على “الباب الصحيح” أولا قبل الشروع في إغلاقه.
خلال تاريخ السودان السياسي المعاصر كان ظن الساسة المدنيين أن منع الانقلابات العسكرية يستوجب سيطرتهم على وزارة الدفاع بافتراض أنها مفتاح “بوابة” الجيش التي يجب إحكام اغلاقها منعا للانقلابات.
وعلى هذا الفهم في الحكومات المدنية التي حكمت السودان – وللأسف على قلتها- كان رئيس الوزراء يجنح غالبا لتولي وزارة الدفاع فوق أعبائه الجسيمة في رئاسة الوزارة، والظن عندهم أن وزارة الدفاع تسيطر على المؤسسة العسكرية، فإذا ما أمسك بابها فهو قادر على إغلاقه في وجه الانقلابات العسكرية.
في أول حكومة وطنية قبيل وبعد الاستقلال مباشرة، تولى رئيس الوزراء السيد إسماعيل الأزهري وزارة الدفاع، خلفا لأول وزير دفاع سوداني السيد خلف الله خالد.
وفي أول حكومة ائتلافية بعد إعلان الاستقلال تولى منصب رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل في 6 يوليو 1956 فجمع أيضا لمنصبه الرفيع وزارة الدفاع.
وللمفارقة بدلا من إحكام إغلاق الباب “الذي منه تأتي رياح الانقلابات العسكرية” تولى بنفسه إفساح الطريق لأول انقلاب عسكري ناجح يمسك بمقاليد الحكم في السودان بقيادة الفريق إبراهيم عبود.
فقد سعى رئيس الوزراء المنتخب ديموقراطيا إلى قيادة الجيش وألح عليهم بالتدخل والإطاحة بحكومته، وللتأكد من اكتمال ترتيبات الانقلاب زار القيادة العامة للجيش، ولما اطمأن لتدابيرهم قال لهم (ربنا يوفقكم) واستجاب الله دعاءه فوفق قيادة الجيش في الانقلاب عليه صباح 17 نوفمبر 1958.
بعد ثورة أكتوبر الشعبية في 1964 تولى منصب رئيس الوزراء سر الختم الخليفة فجمع أيضا إلى رئاسة الوزراء منصب وزير الدفاع.
وخلفه في منصب رئيس الوزراء السيد محمد أحمد المحجوب وسار على النهج ذاته فجمع إلى رئاسة الوزراء منصب وزير الدفاع في الحكومة الائتلافية الثانية “يونيو 1965- يوليو 1966”.
ورغم أن رئيس الوزراء الصادق المهدي في تلك الحقبة لم يجمع إلى المنصب وزارة الدفاع لكنه أسندها إلى مدنيين مقربين في حزبه فتولى الأمير عبدالله عبد الرحمن نقدالله وزارة الدفاع “يوليو 1966- ديسمبر 1966″، ثم خلفه السيد أحمد عبدالرحمن المهدي “ديسمبر 1966- يوليو 1967”. ثم السيد آدم موسى مادبو “مايو 1967- يوليو 1968” ثم السيد أمين التوم “مايو 1968 – مايو 1969”.
وفي العهد الحزبي الثالث “1986-1989” الذي أتى بعد حكم عسكري طويل امتد 16 سنة بقيادة جعفر نميري حاول السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء التأكد من إغلاق “الباب” وإحكامه جيدا فتولى بنفسه وزارة الدفاع أيضا.
ورغم ذلك، نجح الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989 الذي قاده عمر البشير في الإطاحة به.
كانت نظرية “الباب البجيب الريح” تفضي دائما إلى الوقوف في الباب الخطأ، وزارة الدفاع التي ظن الساسة أنها قادرة على إلجام الانقلابات العسكرية، لكن من مجموع الانقلابات العسكرية في السودان التي تقترب من 20 ليس من بينها انقلاب واحد جاء من “بوابة” القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، فهي كلها انقلابات حزبية تتخفى في زي عسكري.
الانقلاب الأول في 17 نوفمبر 1958 كان بطلب رسمي تقدم به وبإلحاح رئيس الوزراء –شخصيا- والمنتخب ديموقراطيا، ولم يكن انقلابا بالمعنى الحرفي وإنما أقرب إلى عملية تسليم وتسلم بين القيادة السياسية ممثلة في عبد الله خليل رئيس الوزراء والقيادة العسكرية الفريق إبراهيم عبود قائد الجيش السوداني.
الانقلاب الثاني الذي نجح في تولي السلطة وقف خلفه الحزب الشيوعي والقوميون العرب وقاده عسكريا جعفر نميري في صباح 25 مايو 1969، ثم حاول الحزب الشيوعي أن ينقلب على الانقلاب في نهار 19 يوليو 1971، ونجح في الاستيلاء على السلطة لثلاثة أيام فقط ثم سقط.
في 30 يونيو 1989 خططت ودبرت ونفذت الانقلاب العسكري الجبهة الإسلامية القومية رغم أن الواجهة العسكرية كانت بقيادة عمر البشير لكنه كان انقلابا حزبيا سياسيا ببزة الجيش.
وبعد حوالي سنة بالتحديد في أبريل 1990 حاول حزب البعث الانقلاب على انقلاب البشير ففشلت المحاولة وأدت لإعدام 28 ضابطا في القوات المسلحة ممن اتهموا بالمشاركة في المحاولة الانقلابية.
طوال عمر الجيش السوداني الذي يقترب من مائة سنة لم يسجل التاريخ انقلابا عسكريا من صنع المؤسسة العسكرية، فيصبح البحث عن “الباب الذي منه تأتي الريح” في موضع آخر غير بوابة “القيادة العامة للجيش”.
لم يسلم حزب سياسي واحد من التورط في الانقلابات العسكرية إما مباشرة في التدبير والتنفيذ أو بصفة غير مباشرة من خلال دعم الانقلاب العسكري وتوفير الغطاء السياسي والجماهيري المساند للانقلاب. والبحث عن “الباب الذي منه تأتي الريح” أجدر أن يكون هنا، داخل أسوار الأحزاب السياسية لا باب الجيش.
مساران يحكمان إغلاق الباب الذي تأتي منه رياح الانقلابات العسكرية، الأول قانوني يتعلق بمبدأ “عدم الإفلات من العقاب”، بإصدار “قانون العزل السياسي” الذي يمنع أي حزب أو سياسي يشارك في انقلاب عسكري من العمل السياسي بصورة مطلقة، فمن المحير فعلا أن يتبارى الساسة في تدبير الانقلابات العسكرية ثم يتولون قيادة الحكومات المدنية التي تأتي بها الثورات الجماهيرية، وبالضرورة فإن العزل السياسي ليس بديلا بل مرادفا للعقاب الجنائي أيضا.
أما المسار الثاني فهو إعادة هيكلة الأحزاب السودانية بصورة عميقة لتحديد مهامها وأهدافها وهوياتها، هل هي مؤسسات عامة مملوكة للشعب السودان بالشيوع، أم هي مؤسسات خاصة للقيادات أو البيوتات أو الطوائف، أم هي حيازات للقيادات التي تدير الديموقراطية داخل الحزب بحيث تنتج دائما الوضع القيادي المطلوب لهذه القيادات؟
المؤسسات الحزبية بوضعها الراهن لا يمكن أن تنتج دولة ديموقراطية معافاة، فمن الحكمة تحويلها إلى منابر مفتوحة تتناصر فيها الأفكار والمباديء والبرامج، لكن دون أن تصبح محميات خاصة أيدولوجية أو طائفية أو عائلية.
“الباب البجيب الريح” هو باب الأحزاب لا الجيش.
إرم نيوز