د. هبة عبدالعزيز: العين تأكل أيضًا
إن السعادة لا يصنعها الطعام وحده، ولا الثياب الثمينة، ولا الزهو، وإنما يصنعها حب لا نهاية له.. هذا ما قاله الروائي العالمي فيودور دوستوفيسكي.
وأتذكر مثل إنجليزي قديم يؤكد “العين تأكل قبل الفم أحيانًا” وكان والدي – رحمه الله – دائمًا ما يردده كي يعلمنا أن إعداد مائدة الطعام أهم من طهيه، وكان أجدادنا قديمًا يحرصون على تقديم الطعام بطريقة منظمة وجاذبة بحيث تحتوي “السفرة” على مزيج من ألوان الخضراوات الطازجة.
ولم يقتصر هذا على طبقة بعينها، حتى الفلاحات كن تحملن “مشنة الغدا” المصنوعة من الخوص وأعواد الشجر، فوق رأسهن وبها الخبز الساخن والخضراوات الشهية وما تيسر من جبن أو لحوم.
والطبقات الوسطى كان تناول الشاي لديهم له طقوس خاصة؛ بحيث يقدم في طقم صيني “خزف” وغالبًا كان مطبوعًا عليه صور روميو وجوليت، ويحتوي على البراد والفناجين وأطباق الجاتوه والكيك واللبانة وهكذا. أما الآن فقد تضاعفت أسعار هذه الأطقم وحين تقتنيها كل عروسة في جهازها تشيعها إلى مثواها الأخير في “النيش” وقد ينقضي العمر دون أن يتخلله الهواء.
ولا أعلم لماذا تحول شكل الحياة المعاصرة إلى هذا النمط الجاف، وأصبح الطعام تحصيل حاصل تتناوله في السيارة أو على قارعة الطريق وأحيانًا على الواقف في البيت دون منحه تأشيرة دخول إلى بطوننا، وكأنه تسلق إلى أفواهنا في هجرة غير شرعية إلى المعدة؟
وما الذي سيضيرنا لو بذلنا حثيثًا من الوقت وحفيفًا من الجهد لتقديم الطعام بطريقة راقية تتسق وآدميتنا، هل ستتعطل الأم وتتوقف الدقائق حين تصنع “ساندويش” لابنها وتضعه في طبق نظيف وتضيف إليه بعضًا من حلقات الخيار ووردات الطماطم وأوراق الجرجير، بدلًا عن قذفه في يده ككرة تنس يود المضرب التهامها!
ولما لا تسعى الأمهات لتعليم الفتيات فن إعداد المائدة وطرق استخدام كل أداة وصف الأطباق ووضع الأكواب، وإلا فلماذا تنفقن كل تلك النقود في شراء جهاز العروسة بلا فائدة.
حاول أن تسأل أي عروسة جديدة عن بعد الأدوات التي يكتظ بها مطبخها أو سفرتها؟ سوف تحيطها طيور الارتباك فوق رأسها ولن تجيب.
يا سادة إن دور الأهل لا يقتصر فقط على الشراء والصرف، بل عليهم شرح كل خطوة وكل استخدام، عليكم أن تعلموهم أن لحواسنا علينا حق، وكيف تتسابق روائح الطعام لتحتضن كل من يدخل المنزل وربما تسبقه إلى الخارج، وكيف يمكن أن تصبح المائدة تابلوهًا فنيًا متكاملًا يسر الناظرين، ثم كيف ينتصر المذاق على الشهية في معركة فموية ممتعة.
ألم يكتب الشاعر محمود درويش قصيدته الشهيرة “إلى أمي” قائلًا:
أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوة أُمي
ولمسة أُمي.
اتركوا أثرًا طيبًا في نفوس أولادكم، علموهم كيف تكون الحياة جميلة بطرق بسيطة، علموهم أننا لا نقتني شيئًا بلا قيمة أو دون الحاجة إليه.
علموهم أن تنسيق ثيابهم ومظهرهم الخارجي ليس أكثر أهمية من تنسيق طعامهم، حببوا أطفالكم في طعام المنزل قبل أن تلقوا عليهم باتهامات ظالمة أنهم أجيال “التيك أواي” والوجبات السريعة، التى وقعوا فريسة سهلة في مخالبها بعد أن تبارت شركات الأغذية في تقديم كل عناصر الجذب لهم سواء بالألوان أو الأشكال أو الروائح على حساب صلاحية صحتها للتناول. قدموا لهم الفواكه والخضراوات بطرق بسيطة ومقطعة بأشكال سهلة، ولو تعثرتم يمكنكم استخدام أدوات “الكيتشن ماشين” الضخمة التي حددتم مهامها في فرم البصل وخلط الطماطم!
واعملوا بمقولة الكاتب المسرحي أنطون تشيكوف: نحن لا نعيش لنأكل، بل لنعرف ما هو إحساس تناول الطعام.
علينا جميعًا أن نتعلم كيف نتذوق الطعام قبل أن نأكله، وأن نعمة الإحساس من أجمل النعم، فالإحساس بالجمال لا يتجزأ، وأن عملية الطهي لابد أن تتم بكل الحب فالطعام المصنوع بأنفاس المحبة يأتي شهيًا ومتميزًا للغاية، وأن المثل المتناول بشأن أقصر طريق إلى قلب الرجل معدته لم يقصد به أن تملأيها بالوقود، كما نفعل في السيارات، ولكنه تعبير صارخ عن الاهتمام بتفاصيله وحب ما تقدميه له، وهو شعور لو تعلمون عظيم.
د. هبة عبدالعزيز – بوابة الأهرام اليوم